بات من المؤكد أن المبادرة الفرنسية لإحلال السلام في ليبيا سقطت في الماء، وتأكد باستحالة تجسيدها ميدانيا بعد دخول إيطاليا على خط عملية التسوية، وألقت بثقلها في المشهد الليبي من منطلق أسبقيتها في لعب دور محوري في إنهاء الأزمة في إحدى مستعمراتها السابقة قبل أي دولة أخرى. واستعملت روما السرعة القصوى من أجل تكريس هذا الموقف والدفاع عن مقاربة أولوية دورها في إحدى أعقد الأزمات التي أفرزتها رياح "الربيع العربي" على مستعمرتها السابقة، عندما حددت تاريخ التاسع عشر من الشهر الجاري، لعقد ندوة دولية لتمرير نظرتها حول حل الأزمة الليبية، وهو ما يعني بشكل تلقائي مسح نتائج ندوة باريس شهر ماي الماضي، والبدء من الصفر في وضع تصورات أخرى رأت فيها روما أنها أكثر واقعية. واستطاعت الحكومة اليمينية في إيطاليا استعادة روح المبادرة في أزمة تتفاعل باتجاه الأسوأ في محيط أمنها القومي ومجالها الجغرافي القريب، بما يعني أنه لا يجب لأية قوة مهما كانت أن تزيحها من لعب دور محور في إنهائها وفق ما يخدم مصالحها. وسارعت الحكومة الإيطالية في هذا السياق إلى استغلال هفوة العامل الزمني غير الكافي الذي وقعت فيه باريس، بعد أن حدد بداية الشهر القادم، لتنظيم انتخابات في ليبيا دون أن تأخذ في الحسبان حقيقة الوضع الأمني المتدهور، وهو عامل سار ضد الرؤية الفرنسية لإنهاء الأزمة الليبية، وحكم عليها بعدم الواقعية عندما راهنت على أولوية المقاربة السياسية على حساب المقاربة الأمنية. وشكّل التدهور الأمني الذي عرفته العاصمة الليبية طرابلس ومحيط مطارها الدولي منذ شهر جويلية الماضي، وتجدد المعارك فيها في كل مرة، وكذا الوضع في مدينة صبراتة والتهديدات الإرهابية في طبرق وفي محيط موانئ الهلال النّفطي التي تشكل شريان الحياة للاقتصاد الليبي أهم عامل جعل المبادرة الفرنسية لا تجد طريقها إلى التجسيد، رغم أن الأممالمتحدة والحكومة الليبية وحتى المشير خليفة حفتر، الذي حضر ندوة باريس، كانوا من بين أكبر المؤيدين لها بمجرد طرحها من طرف الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، الذي حاول تصحيح تبعات الجريمة التي ارتكبها سابقه إلى قصر الإليزي، الرئيس المغادر نيكولا ساركوزي، الذي بادر بعملية عسكرية أطاحت بنظام العقيد الليبي معمر القذافي، شهر أكتوبر سنة 2011. كما أن عدم القيام بأي شيء من شأنه التقريب بين مواقف الأطراف السياسية الليبية التي بقيت منقسمة على نفسها بحكومتين وبرلمانيين وقوات جيش في طرابلس وأخرى في بنغازي، شكل أكبر عائق أمام نجاح المقاربة الفرنسية الداعية إلى تبنّي دستور جديد للبلاد يسمح بتنظيم انتخابات في العاشر من الشهر القادم، ولكنه تاريخ يتأكد من يوم لآخر أنه أصبح في حكم الماضي لاستحالة تنظيم موعد سياسي بأهمية انتخابات عامة في مستنقع أمني بخطورة ذلك الذي يعرفه هذا البلد في الوقت الراهن. ولكن هل معنى ذلك أن إيطاليا من خلال عقدها لندوة أخرى موازية لتلك التي عقدت في باريس ستنجح حيث فشلت فرنسا؟ المؤكد أنه لا شيء في ظل الأوضاع الليبية ما يوحي بذلك، إذا أخذنا بحقيقة الواقع الميداني ودرجة التنافر التي مازالت قائمة بين طرفي النّقيض في معادلة الأزمة الليبية، يمثله في العاصمة طرابلس رئيس الحكومة الوفاق الوطني فايز السراج، وفي مدينة بنغازي غريمه المشير خليفة حفتر، بعد أن تمسك كل واحد منهما بمواقفه رافضين التنازل عنها قيد أنملة. وحتى وإن أدرك جوسيبي كونتي، رئيس المجلس الإيطالي أهمية الرجلين في إيجاد حل لأزمة بلدهما وراح يؤكد أنهما سيشاركان في لقاء باليرمو، فإنه غير متأكد من نجاح مسعاه إذا أخذنا بشعور الانتصار الذي انتاب الرئيس الفرنسي، الذي استطاع قبله إجلاس الرجلين ولأول مرة إلى طاولة مفاوضات واحدة، وكان له الفضل في توقيعهما ولأول مرة على وثيقة باريس التي شكّلت منعرجا حاسما في الأزمة الليبية، قبل أن يتأكد استحالة تجسيدها على أرض الواقع الليبي. والواقع أن الرجلين إذا كانا فعلا يشكلان نظريا مفتاح الحل لأزمة عمّرت لأكثر من سبع سنوات، فإن ذلك لا يمنع من القول إن تفاهمها يمر حتما عبر تفاهمات مسبقة بين قوى دولية وإقليمية معنية بالأزمة الليبية، قاسمها المشترك مزايا ومصالح اقتصادية وأمنية ضخمة تريد كل عاصمة أن تحققها وأن تكون طرفا في اقتسام الكعكة الليبية على الأقل كل واحد حسب ثقله السياسي والدبلوماسي وحتى العسكري. وهي حقيقة أكدتها التجاذبات الدولية وصراع أقطابها من خلال وقوف كل عاصمة أو مجموعة عواصم وراء تيار أو مليشيا فاعلة في المشهد الليبي بالمال والسلاح والدبلوماسية، الأمر الذي حال دون تسجيل أي تقدم على طريق المصالحة الليبية التي رعتها الأممالمتحدة، والتي وجدت نفسها في النهاية مجرد تابعة لمقاربات ومبادرات هذه العاصمة أو تلك بدليل تبنّي غسان سلامة، المبعوث الأممي إلى ليبيا في كل مقاربة مفروضة من هذه الدولة، قبل أن يتخلى عنها لصالح مقاربة أخرى دون تأكده من قدرته على فك أرقام معادلة ليبية متشابكة خيطوها حد الفوضى الكارثية.