* email * facebook * twitter * linkedin تستعيد الذاكرة التاريخية ماضي الأوبئة الذي غيّر مسار الإنسانية وفرض واقعا آخر، اضطرت فيه الدول والشعوب منها الجزائر طبعا، للتأقلم مع الأوضاع، للنهوض مجددا رغم التكاليف الثقيلة.. ويتحدث بعض المؤرخين ل "المساء" عن هذا الماضي المؤلم، وكيف سُجل في دفتر التاريخ، وكيف تم تجاوزه ببعض من التفاصيل التي من الضروري استرجاعها في أيام كورونا هذه. المؤرخ البروفيسور فؤاد سوفي: التاريخ سجل فترات الأوبئة أشار البروفيسور سوفي إلى أن بعض الأوبئة التي ضربت الجزائر مؤرخة، لكن منها ما هو غير موثق ولم يكن بالحجم الذي يتم تصويره؛ من ذلك طاعون مدينة وهران في الأربعينيات، حيث كان الصراع بين فرنسا الاستعمارية وألمانيا في أربعينيات القرن الماضي. أما الأمر المؤكد فهو طاعون الجزائر الذي ضرب بعد 50 سنة من دخول الاستعمار الفرنسي إلى أرضنا، وخلّف ضحايا ومآسي مهولة، حفظتها الذاكرة التاريخية والشعبية أيضا. وطبعا يضيف المتحدث الطاعون ضرب أيضا الجزائر قبل هذه الفترة بقرون. وكان البعض يعتقد أن بعض الحجاج حملوه معهم من المشرق. والطاعون الكبير الذي لن ينساه التاريخ ووثقه العلامة ابن خلدون، وقع في 1348م، وشمل أيضا المغرب. وفي هذه الفترة من العهد الوسيط كان هذا الوباء الفتاك قضى على الأوروبيين وفعل فعلته. ويذكر البروفيسور سوفي أن الجزائريين حينها كانوا يأخذون بالتدابير، ويفعلون ما بوسعهم لرد الوباء، ومن ذلك الحجر مثلا، فعلى الأقل يبقى المصاب 40 يوما خارج المنطقة السليمة، فإما أن يشفى وإما أن يموت. كما كان الجزائريون يلجأون إلى الطرق الطبيعية المتاحة للعلاج، منها استعمال زيت الزيتون الذي يسخَّن ويدهن به المريض ويغطى لتخرج منه الحرارة، ومن ثمة المرض. كما أن الناس لم يتقاعسوا، وكان أهل الطب والعشابون يبحثون دوما عن العلاج. ومن جهة أخرى، أكد المتحدث أن الأمراض غيرت وجه التاريخ، خاصة عندما يموت الناس بأعداد هائلة؛ حيث حصد الموت نصف الساكنة، وهذا الأمر لم يعد كما كان؛ فالإنسان اليوم أصبح واعيا يدافع عن نفسه ويثق في ربه. وعموما فإن المؤرخين كما يؤكد سوفي اشتغلوا كثيرا على تاريخ الأوبئة منها الطاعون الفتاك، علما أن الكتابات عندنا قليلة جدا، وحتى ابن خلدون لم يسترسل فيها رغم أن بعضا من عائلته ماتوا بالوباء. الدكتور عمر بافولولو (مدير الثقافة الإسلامية بوزارة الشؤون الدينية والأوقاف): الأوبئة الفتاكة تاريخ أسود عاشه الجزائريون أشار المتحدث إلى أن الأوبئة أثرت على عدة حضارات منذ أول وباء عام 430 قبل الميلاد خلال الحرب بين حلفاء أثينا وحلفاء إسبرطة. وكان للعديد من هذه الأوبئة تداعيات كبيرة على المجتمع البشري، بداية بقتل عدد معتبر من سكان العالم، بالإضافة إلى تعاقب سلسلة من الكوارث الطبيعية؛ كالمجاعات والفيضانات والزلازل والجفاف، التي أثرت، بشكل كبير، على البلاد والعباد، وساهمت في تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والصحية والنفسية للسكان، (خاصة في المدن الكبرى؛ باعتبارها من أكبر التجمعات السكانية والمراكز الحضارية والتجارية)، وصولا إلى جعل البشرية تفكر في أسئلة عميقة عن الحياة والوجود. لقد شهدت الجزائر عدة أوبئة، يؤكد الدكتور بافولولو، وتعاقبت الأوبئة بصفة دورية؛ مرة كل خمسة عشرة أو خمسة وعشرين سنة تقريبا. ولقد كانت الأوبئة والمجاعات تلازم الجزائريين لفترات طويلة، ومروا بمراحل عصيبة؛ إذ كان الجزائريون يُتركون للموت، ويسقط الأشخاص جثثًا هامدة. ولم تقتصر انعكاسات الأوبئة والأمراض على الأطر الاجتماعية والاقتصادية، بل تعدتها إلى الجانب السياسي، وترتب عن ذلك العديد من الانعكاسات؛ فقد مات بعض الحكام، وشاعت الفوضى، ووقعت الثورات. وتباينت مواقف حكام الجزائر عبر مختلف المراحل في مواجهتهم تلك الأمراض والأوبئة؛ فمنهم من لم يبذل جهدا يُذكر لمكافحة تلك الأمراض، ومنهم من وضع إجراءات صارمة للحد من أثر الأوبئة في الجزائر، علما أن ما يُعرف بالطالب أو المرابط قد تكفل بصحة السكان وعلاجهم من خلال التجربة المتوارثة عن الآباء والأجداد، حيث كان السكان يعللون الأمراض النفسية أو العضوية بالقدر وبالإرادة الإلهية، كما كان التداوي بالأعشاب منتشرا بين الجزائريين. ولقد عرفت الجزائر في العهد العثماني عدة أمراض خطيرة مثل الطاعون والكوليرا والأمراض الصدرية والجلدية التي اجتاحت الجزائر؛ كوباء 1817- 1822م، ومن ذلك عام التيفيس (1921)، وعام الطاعون، وعام الكوليرا، وعام الجدري، وعام الرز، وعام الشر، وعام لالمان؛ حيث درِج الجزائريون على تسمية العام بالحدث الأبرز فيه، ولكن الوباء الذي رسخ في الذاكرة الشعبية الجزائرية هو عام التيفيس؛ فقد عاشت الجزائر تجربة قاسية جدا مع المرض، وكانت آلة الموت تحصد المئات من الأرواح يوميا تكدَّس فوق عربات تجرها الحمير أو البغال. وقضى على عائلات بأكملها، وظهرت المقابر الجماعية. وكان الناس لا يغادرون المقبرة؛ فما إن تُدفن جثث إلا ويحل خبر وفاة أشخاص آخرين. وما زاد الوضع تأزما أن الجزائريين كانوا تحت وطأة الاستعمار الفرنسي. وزاده ألما أن وباء التيفيس جاء في عام جفاف وقحط شديدين، فلم يجد الجزائريون إلا البلوط وبعض الحشائش؛ أكلا لهم، بل كانوا من شدة الجوع ووطأة الحاجة يخلطون البلوط ونجارة الخشب مع الدقيق. جاء في مذكرات الطبيب الفرنسي الدكتور روكس: "عندما وصلنا عام 1830 إلى الجزائر قدّرنا أهلها بثلاثة (03) ملايين، لكن أسفر الإحصاء السكاني الأول الذي أنجزناه سنة 1866 عن 2.6 مليون نسمة. أما الإحصاء الثاني الذي أُنجز سنة 1872 فقد قدّر عدد السكان ب 2.12 مليون نسمة؛ أي بفارق 874949 نسمة في غضون 42 سنة؛ بمعدل وفاة بلغ عشرين ألف شخص في السنة بسبب التيفيس والمجاعة والمقاومات الشعبية. لو استمرت الوفيات بالوتيرة نفسها فإن أهالي الجزائريين سينقرضون لا محالة". وفي سنة 1835 ضرب الوباء الجزائر العاصمة بعدما نقله مسافرون جاءوا من مرسيليا. أما في قسنطينة فكانت الأرقام كبيرة جدًا بعد أن بلغ عدد الضحايا 14 ألف وفاة. وفي سنة 1846 خطف الجدري أكثر من ألفي شخص في قسنطينة وحدها، و500 ضحية في المدية، إضافة إلى عشرات الآلاف من الجزائريين الذين وضعت الأوبئة حدا لحياتهم، علما أن تلك الأمراض كانت منتشرة عالميًا آنذاك، وساعد في انتشارها إصابة بعض الفرنسيين الموجودين على الأراضي الجزائرية، أو بعض الجزائريين الذين تم تجنيدهم إجباريا في الحرب العالمية الثانية. وقد عادت الكوليرا لتضرب الجزائر مجددًا خلال الحقبة الممتدة من 1920. وفي سنة 1934 ظهر داء الكوليرا في مدينة وهران، ولقد نقل المرض مسافرون جاءوا من إسبانيا على متن باخرة، ففتك وباء الكوليرا بروح 1475 شخصًا، حسب كتاب "تاريخ الأوبئة في شمال إفريقيا" لجون لويس جونفياف. وكان سوء التغذية وانعدام النظافة والأوضاع المزرية التي كان يعيشها الجزائريون، السبب المباشر في انتشار وباء الكوليرا. ومَثل محدث "المساء" ببعض الكتب والبحوث المخطوطة والمطبوعة المهتمة برصد الأوبئة وآثارها، منها مخطوطة "ما رواه الواعون في أخبار الطاعون" لأبي رأس الناصري، وكتاب "نقيب أشراف الجزائر" لأحمد الشريف الزهار، وكتاب حمدان خوجة "إتحاف المنصفين والأدباء في الاحتراس عن الوباء"، وكتاب عبد الرحمان بن محمد بن خلدون "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، وأبحاث البروفيسور ناصر الدين سعيدوني، خاصة "الأحوال الصحية والوضع الديموغرافي في الجزائر". أما بالنسبة للرسائل الجامعية فهناك أطروحة فلة موساوي قشاعي، "الصحة والسكان في الجزائر أثناء العهد العثماني وأوائل الاحتلال الفرنسي (1518 -1871م)"، ومارشيكا (MARCHIKA) أطروحة دكتوراه في الطب من جامعة الجزائر، عالج الطاعون في الجزائر من 1363 إلى غاية 1830م، ومذكرة للتخرج لنيل شهادة الماستر تخصص "تاريخ الجزائر"، بعنوان "الظاهرة الوبائية في الجزائر خلال عهد الدايات (1671 -1830م)، أسبابها وانعكاساتها". المؤرخ الدكتور أرزقي فراد: ظروف كورونا لا تشبه ما كان من أوبئة أشار الدكتور أرزقي فراد إلى أن الأوبئة ضربت بقوة الجزائر في القرون الماضية، وأهلكت الملايين نتيجة المجاعات والحروب. ورغم كل ما حصل يرى المتحدث أن ما كان هو مختلف عن زمن كورونا اليوم؛ حيث إنه حالة متميزة لا تشبه طاعون الحربين العالميتين الذي أودى بحياة الألوف، علما أن انتشاره كان في مناطق محددة وليس ككورونا التي امتدت إلى كل العالم، الذي تحوّل إلى قرية واحدة بفضل وسائل التواصل السريعة التي ساهمت في العدوى بين القارات. ويضيف: "كان يقال في الأثر "اطلبوا العلم ولو في الصين" كدلالة على البعد، أما اليوم فإن الصين أصبحت مزار التجار والمبادلات الاقتصادية، ويذهب إليها تجارنا وكأنها سوق أسبوعي محلي". المؤرخ الدكتور احسن الزغيدي: الاستعمار كان الطاعون الأكثر فتكا أكد المؤرخ زغيدي أن الشعب الجزائري عانى كثيرا من ظروف الأوبئة المختلفة عن ظروف اليوم، وتاريخنا المعاصر سجل أوبئة نجمت عن الحرب العالمية الأولى، منها الطاعون والكوليرا، وهي أوبئة حصدت من الجزائريين العجب العجاب، وكان بعضها ناجما عن ظروف ما بعد الحرب وأزمة 1929 الاقتصادية، التي دفعت بفرنسا إلى اتخاذ احتياطاتها الاستراتيجية من الجزائر لفائدة أوروبا، فضاع الجزائريون، وأكلت الجيف، ومشى الناس عراة حفاة وأكلتهم الأوبئة، وكانت المقابر لا تخلو في كل يوم من زائري الأموات، ليدفن الواحد بعد الآخر. وكان المشيعون يدفنون في الجنائز، وبالتالي حصدت الأوبئة الآلاف. لكن رغم كل ذلك ظل التضامن والتآزر والتكافل الاجتماعي بين أبناء الوطن الواحد الجريح، ولم يكن هناك طبيب يعالجهم؛ فالأطباء للأغنياء الفرنسيين، فيما يلجأ الجزائريون إلى الطب البديل، الذي كان يعطي نتائجه الحسنة على البعض. ويشير المتحدث إلى أنه في فترات الوباء تتعزز الثقافة الشعبية الأصيلة، ويتم اللجوء إلى الإسلام كمرجع للحفاظ على هذا التماسك الاجتماعي الجزائري. ونصح الدكتور زغيدي قراء "المساء" بالعودة إلى ما كُتب عن فترة الأوبئة في تاريخ الجزائر رغم قلتها، وكيف واجهت الحركة الوطنية هذه الأوضاع. كما أن هناك أعمالا أدبية وفنية تناولتها، وذكر منها فيلم "سنوات الجمر" للخضر حامينا، متمنيا أن يعاد بثه ليراه الجمهور في فترة الحجر، وكذلك رائعة "دار السبيطار" لمصطفى بديع، التي تناولت جانبا من هذا التاريخ المؤلم. وسيرى جيل اليوم كيف واجه أجدادهم تلك المحن بثبات، علما أن أكبر وأخطر وباء فتاك كان الاستعمار الفرنسي، الذي حد من حرية الجزائري، وفرض عليه عدم التنقل، وكان دوره يشبه الطاعون؛ فمارس الإبادة والموت والتشريد والنفي وبتر البطون والاختطاف وغيرها من الجرائم، والمكتبة الجزائرية غنية اليوم بالوثائق والكتابات، وطبعا كان النصر دوما للحق ولم تسقط الجزائر.