القبطان يطعم المساكين شمال مدينة عين معبد غرب جبل "حجر الملح" تتراءى لك أسوار يبدو أنها لبرج عتيق ... إنه "حصن راندون" الذي بُني في فترة المقاومات الشعبية ببلاد أولاد نايل ضد المحتل الفرنسي وحمل اسم الحاكم العام للجزائر "راندون" خلال الفترة "1851-1858" ... وبعد ذلك اقتناه القبطان محمد بن شريف في الفترة 1907 - 1908 وحوّله إلى اقامته الخاصة ... داخل هذه الإقامة عاش القبطان وصنع فيه ملحمة تضامن وتحدي ما تزال الألسنة تلهج بذكرها إلى اليوم ... فمن لا يعرف القبطان محمد بن شريف فهو حتما لا يعرف شيئا عن تاريخ دائرة الجلفة والإقليم العسكري للجنوب الجزائري ... ومن لا يعرف الحاج محمد فهو لا يعرف شيئا عن أول روائي في شمال إفريقيا باللسان الفرنسي حين تربع على عرش الرواية بعد أن ذهب بعيدا في أدب الرحلة والرسم والفوتوغرافيا والسولفاج والتصميم المعماري ليبلغ سدرة منتهى الإنسانية حين ضرب أروع مثال في التضامن مع قومه ضد الوباء والمجاعة وضد سلطة الاحتلال الفرنسي ... في هذا الأسبوع هي الذكرى التاسعة والتسعون لوفاة القبطان محمد بن شريف بالتاريخ الموافق ليوم الثلاثاء 22 مارس 1921 ... مازال هذا الرجل لم ينل حظه من الدراسة والبحث رغم أنه قد كتب عنه كل من الأستاذ أحمد خير الدين رواية (Rocher de Sel) والعقيد أحمد بن شريف (Parole d'un Barodeur) وغيرهما لقد سبق أن أشرنا منذ أسبوعين في الورقة السادسة لنصوص رحلاتنا إلى القبطان محمد بن شريف بصفة عابرة وكنا قد أزمعنا ساعتها أن نخصص حلقة خاصة به في ذكرى وفاته ... فنشكر كل من ساعدنا من قريب أو من بعيد في انجاز هذه الورقة عن شخصية القبطان الحاج "محمد بن شريف 1879-1921" بن سي أحمد "1853-1921" بن الخليفة "سي الشريف بلحرش" ... ونخص بالشكر هنا أحد الجلفاويين الواعين بالتاريخ وهو الحاج "محمد بن شريف" بن البشير بن عبد المجيد بن سي أحمد بن الخليفة سي الشريف بلحرش... ذلك أن الإلمام بالتاريخ برواياته وأعلامه ووثائقه لا يكفي ما لم يصاحبه وعي بما نملك وما نحفظ ... الجلفة في بدايات القرن العشرين ... يذكرنا وباء الكورونا الذي يجتاح العالم بما حل بالجلفة من أوبئة لم يكن أثقل منها وطأة سوى الاحتلال الفرنسي الذي لم ولن يغفر لهذه الربوع أنها شكلت أول جيش لتحرير العاصمة سنة 1835 حين أعلن المقاوم موسى الدرقاوي النفير ضد الاحتلال الفرنسي من مسعد سنة 1831 ... لقد كان الربع الأول من القرن العشرين خاصا جدا بدائرة الجلفة التي كانت تتأثر دوما بما يحدث بالجزائر وعبر العالم. وقد ترجم كل ذلك مقاومات أولاد نايل ضد الاحتلال الفرنسي في القرن التاسع عشر ليقرر المحتل بناء مدينة كولونيالية في قلب بلاد أولاد نايل ... فكانت البداية بالبرج العسكري في سبتمبر 1852 ثم ترسيم قرية الجلفة في فيفري 1861 التي سرعان ما هاجمها المقاوم بوشندوقة بعد شهرين من تأسيسها في آفريل 1861 ليكون سي الشريف بلحرش محلّ ريبة ورقابة بشهادة الملازم مانجان والأرشيف الوطني التونسي ... ثم لتشهد منطقة الجلفة انخراط قبائلها في ثورة 1864 ثم يلي ذلك حادث اغتيال سي الشريف بلحرش والذي تضاربت الروايات بشأنه ... وهكذا ليبدأ بناء السور حول المدينة الجديدة التي ركّزت فيها سلطات الاحتلال الفرنسي كل المصالح الإدارية والصحية والقضائية والعسكرية والتجارية!! في ظل هذه الظروف دخلت منطقة الجلفة القرن العشرين وقد شرعت فرنسا في إحكام قبضتها أكثر فأكثر للسيطرة على ثروات المنطقة من مواشي ومحاصيل ومنتجات حرفية ... ولكن ليس هذا فحسب بل أيضا التجنيد الإجباري لشبابها والرمي بهم في شتى الحروب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل ... ثم هاهو مشروع القطار الذي بدأ التفكير فيه سنة 1890 قد بدأ يتجسّد لاستهداف أكبر سوقين تجاريين بالمنطقة وهما عين وسارة والجلفة ... وهكذا وصل القطار إلى هذه الربوع في أتون الحرب العالمية الثانية لنهب خيراتها كالحلفاء والصوف وفواكه القصور والمنسوجات والمواشي والملح وحطب غابات مدينة الجلفة والتي قدرت مساحتها آنذاك ب 110 ألف هكتار ... وكذلك لنقل المجنّدين ومؤونة المنطقة إلى جبهات الحرب العالمية الأولى!! يقول الأكاديمي "الدكتور محمد عزوز"، الباحث في التغير الاجتماعي، أن هذه الفترة قد تميزت بصناعة المحتل لظروف معينة تجبر الجزائريين على خدمتها في ظل الاضطرابات التي شهدها العالم والتسابق نحو تقاسم مناطق نفوذ الإمبراطورية العثمانية ثم الحرب العالمية الأولى. ويؤكد نفس الباحث أن فرنسا قد لجأت إلى سياسة توجيهية بتسخير سواعد الجزائريين بدافع الجوع ... وبالفعل وعلى سبيل المثال سنجد أن الإدارة الفرنسية بالجلفة قامت ببناء 05 دور غابات خلال الفترة 1908 – 1912 من أجل نهب حطب غابات عين حواص وسن اللبا الشرقي وعين قطية وتقرسان وسن اللبا الغربي وعين بحرارة وعين روس لخراط في السحاري القبلي ... لقد كان القطار يتطلّب الفحم وغابات الجلفة كانت منتجة بامتياز للفحم ولأخشاب بناء خط السكة الحديدية ولأعمدة التلغراف لشركة PTT التي قطعت 3000 شجرة من جبل السحاري القبلي سنة 1911 ... وهكذا سنجد هنا الإجابة عن السؤال لماذا حرص المحتل الفرنسي على مد خط السكة الحديدية نحو الجلفة في عز الحرب العالمية الأولى؟ باختصار إن فترة الربع الأول من القرن العشرين بدأت بالاستغلال الواسع لثروات منطقة الجلفة وانتهت بمجاعة ووباء تسببا في موت الكثيرين وحدوث الهجرات الكبرى لأولاد نايل نحو التل بالغرب الجزائري ... إنها فترة تحتفظ بها الذاكرة المحلية جيدا وقد أعطتها تسمياتها التي تحكي مآسيها ... "عام التيفيس" لسنة 1920 ... و"عام المسغبة" و"عام الشر" لسنة 1921 التي مات فيها الكثير من أبناء المنطقة ... ووقتها بدأ الدفن ب "الجبانة الخضرة" بينما أخذت "جبانة المجحودة" تسمية الرجل الكريم والإنساني "سي علي بن دنيدينة" الذي توفي في "عام التيفيس" أي سنة 1920 دون أن ننسى "القايد سي عبد الله بن سي محمد" الذي قضى بسبب العدوى لأنه كان يوزع الحساء على المرضى والجائعين ... بعد قرن من الزمان ... أزمة الكورونا تحيي ذكرى همة إنسانية متفرّدة!! انتهت الحرب العالمية الأولى في نوفمبر 1918 بعد أن ظلت فرنسا تنهب خيرات المنطقة الواقعة على طول خط قطار "بوغار-عين وسارة" ثم خط "عين وسارة -حاسي بحبح" التي وصلها القطار في آفريل 1918 ... ووقتها ساهم خط السكة الحديدية في نقل شتى ثرواتها في الأشهر السبعة الأخيرة للحرب العالمية الأولى ... وهكذا إلى أن وصل القطار مدينة الجلفة في آفريل 1921 !! الآن صارت منطقة الجلفة معدمة ومُفقرة ... السماء شحت بالمطر والأرض مقفرة والقحط قد عمّ البلاد والعباد ... التجنيد الإجباري كان له نتائج وخيمة على العائلات الجلفاوية التي صارت بلا معيلين وبالتالي كثرة الأرامل واليتامى ... وهكذا شكل هذا الوضع الظروف الملائمة لانتشار وباء التيفوئيد القاتل ... ولتبدأ معه أولى مآسي سياسة الاحتلال الفرنسي بمنطقة الجلفة ... وليقابل أهل الجلفة تلك السياسة بصناعة أروع ملاحم التضامن بينهم ... في هذا الظرف المأساوي كان يتشكل وعي سياسي وتضامني ببُعد دولي يصنعه القبطان الحاج محمد بن شريف رغم أنه قد عاد مُنهكا من جبهات الحرب العالمية الأولى وسنوات الأسْر والمرض بين ألمانياوسويسرا ... وقبلها كان قد أدى فريضة الحج بين سنتي 1913 و1914 ثم أرسل إلى جبهة الحرب في المغرب ... أما على الصعيد الوطني فقد كان الأمير خالد يصنع ملحمة نضال سياسي من أجل حقوق الجزائريين السياسية والاجتماعية ... ولكن للأسف سنجد حول هذه الفترة الحديث فقط عن القبطان الأمير خالد والتغاضي عن سيرة القبطان محمد بن شريف !! ... يحدث ذلك رغم أن كلا القبطانين لهما تقاطعات كثيرة مع بعض في شتى مراحل حياتهما ... فهُما حفيدان لمقاومَين جمع بينهما البارود لأزيد من 11 سنة (الأمير عبد القادر والخليفة سي الشريف بلحرش) ... وهما صديقان مقربان ومتقاربان في السن (فارق 04 سنوات) ودرسا في نفس الكلية الحربية "سانسير" بفرنسا وعملا ضابطين في فرسان الصبايحية حيث كان الأمير خالد بالمدية ... كما خاضا الحملة المغربية والحرب العالمية الأولى ... وأكثر من ذلك كان الحاكم العام للجزائر "شارل جونار" يتعامل معهما باعتبارهما مؤثرين ... خذ مثلا تخصيص جونار تعويضا سنويا للأمير خالد من خزانة الحكومة العامة للجزائر يُضاف إلى التعويض السنوي الذي كان يتقاضاه من وزارة الخارجية الفرنسية !! ويذكر المؤرخ "بسام العسلي" في كتابه "الأمير خالد الهاشمي الجزائري" أن الأمير خالد قد كان من أنصار "الثورة العربية" التي بدأت تتبلور منذ جانفي 1913 وأنه كان يعول على الفرسان الصبايحية الجزائريين ... الفرسان الذين ينتمي إليهم القبطان محمد بن شريف !! ولعل رواية "مصطفى الخيّال" للقبطان بن شريف تفصح بشكل جميل عن اعتزاز كاتبها بانتمائه العربي ... وهنا نستحضر ما قاله الروائي اسماعيل يبرير "هذه الرواية أثثت بالموروث المحلي والامتداد للهوية العربية عبر استدعاء الشعر العربي، ما يشير إلى ثقافته العربية العالية، كما أنها رواية فروسية وقد تكون من آخر روايات الملاحم والفروسية ... فيها رقصة أولاد نايل وقهوتهم وقعدتهم ولهجتهم وبيزرتهم وملامح حياتهم ... فيها ملامح الإيمان الصوفي". الحرب العالمية الأولى ... رُبّ ضارة نافعة !! لقد كانت الحرب العالمية الأولى فرصة للحاج محمد بن شريف كي يلاحظ بأمّ عينيه أوروبا وهي في أسوء ما يمكن أن تعيشه أي قارة ... إنها ظروف الحرب المدمرة ... ولكنها شكلت أيضا فرصة ليطلع على تطور واقع حقوق الإنسان والمساجين ونشاط اللجنة الدولية للصليب الأحمر... انها حقيقة مرة قد أيقنها هناك مثلما سبق له أن أيقن أن أي ضابط من الأهالي في الجزائر لا يمكنه أن يتجاوز رتبة نقيب كما هو الحال معه هو ورفيقه الأمير خالد !! تم استدعاء الملازم محمد بن شريف إلى جبهة الحرب في أوروبا سنة 1914 ليقع في الأسر بعد سقوط مدينة ليل الفرنسية في أكتوبر 1914 ثم يُنقل أسيرا إلى سجن كريفلد بألمانيا لمدة 15 شهرا. وهناك تدهورت حالته الصحية ليتم نقله بداية سنة 1915 إلى سويسرا في إقامة صحية ويمكث فيها إلى منتصف سنة 1918 ثم يعود إلى فرنسا أين تم ترقيته إلى رتبة نقيب ومنها إلى أهله بالجلفة أين ستحدث له الصدمة الكبرى!! معتقل كريفلد بألمانيا ... يظهر القبطان محمد بن شريف خلال فترة أسره من نهاية 1914 الى بداية 1916 إنها فترة 03 سنوات و09 أشهر ما بين فرنساوألمانياوسويسرا كانت كافية لتشكيل فكرة مقارنة بين ما يحدث في أوروبا وفي مستعمراتها ... وفود اللجنة الدولية للصليب الأحمر تقف على حال أسرى الحرب العالمية الأولى بينما تحرص الدول الأوروبية المتحاربة فيما بينها على احترام هذه الوفود ... الأسرى لهم الحقوق في الرعاية الصحة والغذائية ... وهاهو معتقل كريفلد يتوفر على الحد الأدنى من الرعاية رغم أن الأسرى هُم أعداء ألمانيا ... لقد كان من حق الأسير مبلغ معيشة يومية والحق في الإطعام والصحة وفضاءات المطالعة واللعب والحق في التراسل مع ذويه في حدود 04 صفحات للرسالة الواحدة ... ومقابل هذا الوضع في معتقلات أوروبا الامبريالية كان الوضع في الجزائر مأساويا وفي الجلفة كانت الكارثة تطبق بفكّيها على سكانها بسبب النهب المستطير لخيراتها منذ بداية القرن والفقر والمناخ القاسي صيفا وشتاء وكذلك نتائج الحرب العالمية الأولى ثم الجفاف والوباء الذي ضرب المنطقة انطلاقا من بؤرته في قصر زنينة غربا ... القبطان محمد بن شريف في الاقامة الاستشفائية بسويسرا 1916-1918 لقد وثّّق القبطان بخطّ يديه هذا الواقع بكلمات تستحق أن تُكتب بتبر الذهب لأنها تحكي ثورة وحُرقة في صدر الرجل ... وهذا حين قال: "وقت البرد يصبّ الثلج فيموت الآلاف من الأطفال ... دون رحمة يتم القضاء على جنود الغد ... أولئك الرماة الذين نجوا من الرصاص الألماني سيموتون هنا بالجوع ... وهاهنا مكمن الحقيقة" Il neigera; quand il fera froid, des milliers d'enfants" mourront. Tous les soldats de demain seront fauchés sans pitié. Des tirailleurs qui avaient échappé aux "balles boches sont morts de faim ici. La vérité est là لقد كانت فترة مكوث القبطان محمد بن شريف بمثابة مرحلة إرهاص فكري وتشكّل للحقيقة والتمرد السياسي لديه ... ويكفي للتدليل على ذلك أن الرجل كان معه في كريفلد أسرى من فرنسا وبريطانيا وروسيا بمجموع 481 ضابط ... ولعلهم جميعا من مستعمرات هذه الدول مثل ابن الجلفة ... ولعل حوارات كثيرة تمت بينهم وربما خطط قد تم الاتفاق عليها خلال فترة 15 شهرا في ألمانيا ... ولكن القبطان محمد بن شريف لم يمهله القدر سوى ليكتب أسطرا ثم يقود ملحمة إنسانية ثم يموت مريضا حسب التقارير الفرنسية أو مقتولا حسب الروايات المتواترة من المقربين منه ... هاهي الحقيقة ماثلة أمام النقيب العائد لتوه من أوروبا المترفة حتى في زمن الحروب ... أرامل ويتامى المجندين ... مساكين لا فقراء ... بالآلاف... وباء منتشر ... ومقابر بدأت تنشأ هنا وهناك على أطراف المدن وفي الغابات ... 1920 عام التيفيس ... 1921 "عام الشر" أو "عام المسغبة" بتسمية أهل الجلفة ... وهكذا سيجد القبطان نفسه وجها لوجه مع الحقيقة القرآنية في قوله تعالى: "... لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ..." صدق الله العظيم الصحافة الفرنسية تُزوّر الحقيقة حول القبطان بن شريف أمام الحاكم العام ... بتاريخ 28 نوفمبر 1920 نشرت صحيفة "ليكو دالجي" تغطية صحفية عن زيارة الحاكم العام "جون بابتيست آبيل" إلى منطقة الجلفة (الزيارة بدأت يوم 22 نوفمبر) حيث نزل بمخيّم المساكين بحجر الملح "Camps des Meskines" ... لقد حرّف مراسل الصحيفة الكثير من الحقائق وتجاهل الخطاب الذي ألقاه القبطان بن شريف أمام الحاكم العام وفيه يرفع مطلب بناء مستشفى مدني "Hopital Civil" خاص بالسكان لأن المستشفى العسكري لا يوفر الخدمة الصحية للسكان ... وفي نفس المقال الصحفي سنجد الصحفي ينسب إنشاء مركز حجر الملح إلى قائد ملحقة الجلفة الرائد بيرو "Commandant Béreaux" ... والأكثر من ذلك ينقل بالتفصيل الممل عبارات الشكر والمدح، و"الشيتة" بالتعبير الحديث، عن قائد ملحقة الجلفة الرائد بيرو في حق حاكمه آبيل ... كما اكتفى الصحفي بذكر مطلب واحد للنائب موستان M.Mostin وهو التسريع بمشروع السكة الحديدية نحو مدينة الجلفة ... فجاءت نتائج الزيارة بوعد من الحاكم العام بدراسة مشروع السكة الحديدية نحو الجلفة وتعيين السيد M.Jullian من أجل تقديم تقرير حول وضع ثروة المواشي ... وهكذا كشفت هذه الزيارة عن أن الحاكم العام لم يكن يهمه سوى ثروة المواشي بالجلفة وكيفية الوصول إليها بالقطار!! وبخصوص المستشفى يُروى أن القبطان طلب من الأهالي أن يكون هو من يخاطب الحاكم العام بشأن احتياجات السكان ... وبالفعل فقد كان المطلب الوحيد باسم الأهالي هو بناء مستشفى مدني فقيل أمام الحاكم العام أنه لا توجد أرضية فما كان من القبطان بن شريف إلا أن أجاب بأن الأرض سيتبرع بها ... وهي الأرض التي يوجد عليها المستشفى القديم لمدينة الجلفة مقابل المقر السابق لمحكمة حي السعادات حاليا. وفي هذا الصدد سنجد شهادة مهمة للعقيد أحمد بن شريف حول بناء مستشفى الجلفة حيث يقول "بفضل دعم أصدقائه عبر العالم قام هذا الرجل النادر (القبطان) بتشييد مستشفى في الجلفة". وبالفعل فإن هذا المستشفى المخصص للأهالي "infirmerie indigène" قد صار قائما في فترة وجيزة بدليل الإشارة إليه في زيارة الوفد الصحي العسكري في فيفري 1921 حسب صحيفة ليكو دالجي. غير أن أهم ملاحظة نستنتجها من هذا المقال الصحفي المجحف هي أن مشفى المساكين بحجر الملح قد كان قائما في نوفمبر 1920 أي قبل وفاة القبطان بخمسة أشهر ... وهو ما يعني أن هذا المخيم كان ما يزال يقدم خدمات الإطعام والمؤونة لفترة لا تقل عن 05 أشهر. وبالتالي فإن الأمطار التي شهدتها المنطقة في ماي وسبتمبر 1920، حسب نفس الصحيفة، تحيل على أن مأساة الجلفاويين لم تكن تتعلق أساسا بالجفاف رغم فترات القحط المتقطعة والتي عدم فيها الزرع وهلكت المواشي ... ولهذا يسمي سكان الجلفة تلك السنة ب "عام التيفيس" ... والى اليوم توجد عدة مقابر صغيرة بنواحي مدينة الجلفة تعرف بمقابر عام المسغبة!! ورغم التظليل الذي كانت تمارسه صحيفة "ليكو دالجي" إلا أن هناك صحيفتين هاجمتا الحاكم العام وهُما "لا لونترن" و"لا ريبوبليكان" وطالبت الأولى، في ماي 1921، بتغيير الحاكم العام بينما فضحت الصحيفة الثانية، في آفريل 1921، زيارته إلى إقليم قسنطينة لعدة أيام واستمتاعه بالأوركسترا وبذخ الزيارة بينما إقليما الجزائر ووهران كانا يعانيان مع الوباء!! وأكثر من ذلك سنجد صحيفة "لا لونترن"، عدد 14 ماي 1921، فضحت حقيقة أن التيفيس هو مرض البؤس أي أن هناك ظروفا كارثية (التجويع والعلاج) قد وقعت فعلا ... ثم هاهي "لا لونترن" تنشر التعليمة الموجهة إلى المسؤولين والتي تطالبهم منع تجول المعوزين والمرضى بأي ثمن ... ولاحظ معي عبارة بأي ثمن التي قد تعني الضوء الأخضر حتى للاغتيال: "تجنبوا بأي ثمن تنقل الأشقياء في المراكز الصحية ... البؤساء لا ينبغي التسامح معهم في المدن والمعسكرات" Eviter, à tout prix, la circulation des malheureux" dans les centres habitées … les miséreux ne doivent "pas être toléré dans les villes et les campagnes إن هذا الوضع قد فضحته القائمة التي وضعناها للجلفاويين (الجلفة، مسعد، زنينة) الذين ساهموا في التخفيف من هذه المعاناة ... ولا يوجد في تلك القائمة (23 شخصية) أي فرنسي بل كلهم من الأهالي مما يعني أن الفرنسيين لم يقدموا حتى يد المساعدة في التطبيب والعلاج ... سننشر تلك القائمة في الجزء الثاني من هذا التحقيق التاريخي بحول الله. القبطان الحاج محمد بن شريف ينقذ السكان ... والفرنسيون له بالمرصاد!! حكايات كثيرة عن ملحمة كبيرة كانت تتم داخل مخيم المساكين بحجر الملح ... غير أنها تتفق جميعها حول شخص واحد كان له الدور الأعظم وهو القبطان الحاج محمد بن شريف ... ولكن لنطرح السؤال الآتي "إذا كانت سنة 1920 سنة جفاف وأن فرنسا قد نهبت كل خيرات الجلفة ... فمن أين جاء القبطان محمد بن شريف بكل هذه المؤونة ليطعم الآلاف من المساكين طيلة فترة طويلة قد تصل إلى سنة ونصف؟ والصحافة الفرنسية أعطت أرقاما مختلفة عن أولئك البؤساء فمرة تقول 1800 ومرة 2000 ومرة تعطي الرقم 20 ألف ... والإجابة المنصفة عن هذا السؤال ستقودنا حتما إلى القول بأن الرجل لن يكفيه حتى مال قارون من أجل تلك المهمة النبيلة في ظل سلطة المحتل الفرنسي ... فالأمور ليست بالسهولة التي قد يتصورها البعض ممن يخرجون النقاش التاريخي عن سياقه ويناقشونه بمنظور كورونا 2020 ... عند هذه النقطة بالذات تنعدم الوثائق والمراسلات والتقارير مازالت لم تُرفع عنها السرية في الأرشيف الفرنسي أو أرشيف عصبة الأمم الذي مازال تحت الرقمنة إلى غاية 2022 ... لأن السؤال فعلا ملحّ: من أين جاء القبطان بن شريف بمؤونة الآلاف من المساكين بالجلفة؟ ... وهكذا لا يتبقى أمامنا سوى الرواية الشفوية عن ملحمة ببعد دولي يكون قد صنعها القبطان بن شريف مما أثار غضب فرنسا مركزيا وفي الحكومة العامة للجزائر وفي ملحقة ودائرة الجلفة ... كان القبطان محمد بن شريف قد اقتنى من ماله الخاص البرج العسكري الفرنسي المعروف باسم "حصن راندون Fort Randon" القريب من حجر الملح ... ولأن نفسه الكريمة لم تكن ترضى أن يحول نفسه إلى مجرد ضابط مترف يعيش بقصره معزولا عما يعيشه أهله، فإنه قد حول هذا البرج إلى مركز لاستقبال المرضى والمساكين ... يقع هذا المركز غير بعيد عن مدينة الجلفة وعلى مرمى حجر من محطة القطار بحاسي بحبح وموقف "البرّاكة" المقابل للطريق المؤدية إلى جبال السحاري القبلي وحوض زاغز ... ورغم أن مسكنه (كان مبيت طريق اقتناه من عائلة كازيل) غير بعيد عن هذا المركز أي بمسافة حوالي 500 متر إلا أنه قد قضى جل وقته في مركز المساكين وهناك توفي ... لأن الرّجل قد سبّل نفسه لمهمة فدائية أودت بحياته!! وفي مذكراته، التي ترجمها الأستاذ سبع أحمد، يقول العقيد أحمد بن شريف "... النقيب محمد بن شريف، الرفيق والصديق الوفي للأمير خالد، الذي درس في سان سير مثله، عارض سلوك السلطات الفرنسية التي هجرت الإقليم عند ظهور مرض الحمى الصفراء (التيفوس) عام 1920 تاركة السكان فريسة لآفتي المجاعة والحمى الصفراء". لقد استطاع القبطان الحاج محمد بن شريف أن يبني علاقات في سويسرا ... فهو مثل غيره من الأسرى تلقى زيارات وفود اللجنة الدولية للصليب الأحمر بسجنه في كريفلد بألمانيا طيلة فترة 15 شهرا ... ثم هاهو يمكث في إقامته الاستشفائية بمنطقة "Glion sur Montreux" بسويسرا لمدة تصل إلى سنتين ونصف ... أي أنه لم يكن بعيدا عن مقر اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالعاصمة جنيف ولعله كان يتلقى زيارات وفودها في إقامته بفندق "Belle Vue"!! والرواية المتواترة عمّن عايشوا تلك الفترة تقول بأن القبطان محمد بن شريف قد عاد إلى سويسرا سنة 1919 وزار مقر عصبة الأمم أين ألقى خطابا يصف فيه المآسي التي يعيشها الشعب الجزائري ثم طلب من اللجنة الدولية للصليب الأحمر مساعدة لمنطقة الجلفة ضد المجاعة والوباء الذين فتكا بأهلها ... وبمجرد أن أبرقته إدارة الميناء بوصول باخرتين محملتين بمساعدات إنسانية باسمه من اللجنة الدولية للصليب الأحمر ... وضع القبطان بن شريف خطة مُحكمة لأن الخطر كان يكمن في أن هذه المساعدات قد يصادرها حاكم الجلفة الرائد بيرو ويوزعها على غير مستحقيها ... وهكذا سافر الحاج محمد إلى العاصمة أين استغل علاقاته وقام بتسوية الوضعية الإدارية للمؤونة المرسلة إليه وتحصل على الرخص المختلفة لا سيما رخصة نقل المؤونة إلى الجلفة عبر القطار. وبخصوص قدرة القبطان على إيجاد المساعدة لإدخال باخرتين الى الجزائر وصلتنا رواية شفوية عن طريق الأستاذ عزيز بوزكري أن القبطان الحاج محمد بن شريف كان على علاقة صداقة وطيدة مع ابن ملك بلجيكا. فراسله لكي يتدخل لدى الحكومة الفرنسية فتم ذلك عن طريق الملك. وهذا الأخير أرسل أيضا مساعدات طبية الى القبطان ... كما وصلتنا رواية شفوية أخرى عن أن الاتصالات الدولية التي عقدها القبطان مع عصبة الأمم واللجنة الدولية للصليب الأحمر وملك بلجيكا قد تسببت في مساءلات بالبرلمان الفرنسي واعتبار ذلك تدخل دولة أجنبية في شأن فرنسي!! والى أن يتوفر لدينا الأرشيف والوثائق فإن هذه الروايات الشفوية قد تم توثيقها ونتمنى أن تجد من يتجاوب معها بالبحث والتحري ... كانت الخطة تقضي بأن يرسل القبطان محمد أخاه "علي بن شريف" إلى "البرّاكة" وهناك يتم إفراغ الحمولة سرا ودون إعلام سلطات ملحقة ودائرة الجلفة على أن تُنقل الحمولة مباشرة إلى اقامة حجر الملح ... وهكذا وفي عصيان صريح للسلطة الفرنسية تم الشروع في تنفيذ ملحمة تضامنية بعيدا عن أي وصاية وهو ما سيُحسب ضد أصحاب المبادرة ... كانت المؤونة تتضمن الحبوب والأرز وعلب البسكويت والشوكولاطة ... وقد أرسل القبطان محمد بن شريف من يدعو الناس إلى الوفود عليه لطلب حاجتهم ... بل وبعث رسُله إلى المناطق المحيطة بدائرة الجلفة مثل المسيلة وبوسعادة وسور الغزلان والأغواط وتيارت !! بين هؤلاء المرضى والمساكين عاش النقيب محمد بن شريف ... الضابط النبيل وأول روائي في شمال افريقيا باللسان الفرنسي وصاحب أول رحلة حج باللغة الفرنسية ... مدير الديوان السابق (ضابط التنظيم officier d'ordonnance) للحاكم العام السابق جونار ... وصاحب المجد الحربي وقلادتي جوقة الشرف الفرنسية ... الرجل لم تغره كل هذه الألقاب بل آثر البقاء بين المرضى والجائعين غير آبه بمصيره إلى أن أصابته العدوى في ذلك القصر الذي بناه وزخرف جدران إحدى غرفه بالآية الكريمة "ولا غالب إلا الله" ... وهنا نتوقف لنطرح المزيد من الأسئلة عن وفاته أو بالأحرى اغتياله!! صورة نادرة للقبطان محمد بن شريف وهو يوزع الطعام على الجائعين والمرضى بقصره الوفاة ... أم الاغتيال؟ سيُطرح سؤال منطقي جدا ... إذا كان القبطان محمد بن شريف صاحب خبرة عسكرية وتكوين عالي وقد عاش في جبهات الحرب العالمية الأولى ثم في الأسر وبعدها الاستشفاء في سويسرا ... فهل من المقبول أن نقبل الرواية الفرنسية التي تقول أنه قد أصيب بعدوى ثم مات؟ وهل من المنطقي أن الرجل قد عاش بين المرضى والمساكين عدة أشهر يطعمهم ويداويهم ويحاكيهم ولم يُصب سوى في منتصف شتاء 1921؟ ثم إن الرجل قد صار يشكل خطرا على فرنسا بكل ما تحمل الكلمة من معنى وصار صاحب ثقل ومكانة حربية وأدبية وعلاقات متشعبة داخل وخارج الجزائر ... وهاهي وفاته تقع في أوجّ النشاط السياسي للأمير خالد ... فهل أدرك الفرنسيون أنهم سيواجهون مرة أخرى مجد مقاومات أولاد نايل في القرن التاسع عشر على يد حفيد الخليفة سي الشريف بلحرش؟ في الحقيقة إن الروايات الفرنسية ينبغي دائما أن تكون محل ريبة ولنأخذ مثلا قضية وفاة (أو اغتيال) سي الشريف بلحرش في أكتوبر 1864 ... فليس من المنطق التسليم بالرواية الفرنسية لسبب بسيط وهو أن الروايات الفرنسية تتناقض فيما بينها حول من اغتال سي الشريف بلحرش!! وهاهو العقيد أحمد بن شريف يقدم رواية متواترة عن وفاة القبطان فيقول "بينما كان المرضى يتراكمون بالآلاف يرقبون العلاجات التي يبذلها شخصيا، تم اغتياله بطريقة جبانة ... حسب إخوته، من بينهم أبي، فإن طبيبا من مستشفى مايو وهو العقيد بيجون Pigeon قد حقنه بحقنة بداعي حمايته من التيفوس، إلا أنه لم يستفق منها إلى الأبد". وفي رواية أخرى فإن القبطان محمد بن شريف كان يسعى إلى تقديم نصائح معنوية للتغلب على وباء الحمى الصفراء ومواساة السكان في مصابهم حيث من مجمل ما كان يدعوهم إليه أن يعملوا وينشطوا لأن النشاط ضرورة صحية ضد الوباء ... وأثناء ذلك كان يعمل ليل نهار وسط المساكين الذين قصدوه من كل جهة حتى انتقلت إليه العدوى ... وأنه قد بقي مريضا لمدة شهر أو يزيد داخل القصر ... وإذا علمنا أن التيفيس لا يمهل صاحبه طويلا فهل من الممكن أن نجمع ذلك مع الرواية المتواترة حول أنه قد مكث لمدة شهر مريضا؟ وهل نحن أمام حقيقة اغتياله من طرف الطبيب العقيد بيجون؟ وبين الرواية الرسمية والحقيقة المغيّبة فقدت الجلفة واحدا من المخلصين لها ساعة الوباء ... نُقل جثمان القبطان صبيحة يوم الأربعاء على الساعة العاشرة إلى مدينة الجلفة ووضع النعش أمام دار القيادة ... طبعا لكي تستغل السلطات الفرنسية هذا الظرف وتقول للناس أن هذا الرجل كان في خدمتها ... بعد ذلك نُقل الجثمان للصلاة عليه في مسجد "سي أحمد بن الشريف" الذي بناه أبوه قبل ذلك بثلاث سنوات وعُرف باسم "جامع بن الشريف" ... ثم توجه الوفد إلى مقبرة برج الباشاغا "عين شنوف"... هناك يرقد الرجل الذي بذل كل ما يملك لمساعدة أهله في محنة الوباء التي فاقمها المحتل الفرنسي ... لقد كان مرضى التيفوس يموتون وهُم ينادون في هذيانهم "يا سي محمد! يا سي محمد!" ... زمنا بعد ذلك تم ترتيب المصير نفسه لوالدهأحمد بن شريف بن لحرش، حسب مذكرات العقيد أحمد بن شريف. القبطان محمد بن شريف في وعي الأحفاد ... المترجم أحمد حيرش (28 مارس 2016) "محمد بن الشريف قائد ورجل نبيل القلب، رجل تجلّت نبالته في تضامنه مع أبناء بلدته الجلفة سنة 1920، عندما انتشر وباء التيفوس في أرجائها، إنه لم يخش على نفسه من العدوى التي تنتشر كما النار في الهشيم. لم ينأ بنفسه وهو ابن السادة عن العامة، بل اختار لنفسه أن يكون واحدا منهم، يؤاكلهم ويجالسهم، ويحمل معهم ويسعى في حاجاتهم، والصادم حقا أن تتكوّن صورة قاتمة بطريق الخطإ في حقه، لأجل أنه انخرط في صفوف الجيش الفرنسي" الروائي والأكاديمي إسماعيل يبرير (23 مارس 2020) ... عندما كتب "محمد بن شريف" أول روائي بالجزائر لم يكتب مالك حداد، ولا محمد ديب ولا كاتب ياسين و لا طاهر وطار، فالرواية تأسست من الجلفة ... فمن الذي يعقّدني، فأنا أكتب الرواية مفتخرا بكوني صاحب شرعية وارث تاريخيّ من محمد بن شريف، لدي المبرر التاريخي والفضاء الحافل الذي يدعم الحكي والدهشة، محمد بن شريف لم يكن روائيا فحسب، بل كان حالة سردية ومزيجا بين الملحمة والأسطورة. لأجل هذا فأنا أكتب منطلقا من روح نص بن شريف حين كان ينزع لقول خصوصيّة ثقافية ما تزال غير مقبولة في وعي المصابين بالحنين للمستعمر ... أغرف من تلك الشرعية التي تقدّم هويّتي وثقافتي ومن واقع الجلفة التي تتفرّد في سرديّتها ... فالفضاء الجلفاوي المحلي قد احتضن ميلاد السرد الجزائري وفيه الانفجار السردي الحالي حتى صارت الجلفة فضاء معروفا بامتياز عبر النصوص الروائية". الإعلامي والأكاديمي المسعود بن سالم (30 ديسمبر 2018) كتب الصحفي سعيد خطيبي لصحيفة "القدس العربي" في ماي 2017 فقال: "تاريخياً، أوّل رواية بالفرنسية، في الجزائر، صدرت عام 1950 "نجل الفقير" لمولود فرعون، وتأخّرت الرّواية بالعربية إلى 1971". غير أن أول رواية باللسان الفرنسي قد صدرت سنة 1920 لكاتب جلفاوي هو النقيب محمد بن شريف 1879- 1921" وهو حفيد "سي الشريف بلحرش 1803-1864" خليفة الأمير عبد القادر؛ وكان صديقا للأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر. وقد توفي بالتيفوئيد الذي ضرب المنطقة وأباد الكثير من أبنائها. ورغم الأوامر بعدم الاقتراب من المرضى إلا أن النقيب بن شريف غلبت عليه حَميّته وأنفته وشهامته ونخوته تجاه بني قومه المعذبين الذين وُضعوا في معسكرات خارج المدينة في نواحي النقازية والزينة وحواص وغُلّقت دونهم أسوار المدينة ... فذهب إليهم النقيب بن شريف بالمؤونة والدواء وانتقلت إليه العدوى وتوفي جراء ذلك يوم 21 مارس 1921 ... والى اليوم توجد مقابر صغيرة ومتفرقة في تلك النواحي وتُسمى بمقابر "عام المسقبة" وأصلها بالفصحى "المسغبة" لأن أهل الجلفة يقلبون الغين قافا. الرواية عنوانها الأصلي هو "Ahmed Ben Mostapha, goumier" وقد ترجمها إلى العربية كل من الدكتور الشاعر شعثان الشيخ والمترجم الأستاذ أحمد حيرش بعنوان "أحمد بن مصطفى الخيّال" وصدرت عام 2007 في اطار منشورات تظاهرة الجزائر عاصمة الثقافة العربية. ورواية بن شريف ليست هي الأولى جزائريا فحسب بل هي الأولى مغاربيا لكاتب من الأهالي. وقد سبقتها رواية في تونس ولكنها لكاتب فرنسي "Vehel J" في تونس سنة 1919 ... وقد طبعت رواية بن شريف ثلاث سنوات متتالية 1920-1921-1922 وضلت سيدة الرواية مغاربيا إلى غاية سنة 1924 أين صدرت رواية "Le Bled en lumière" للكاتب التونسي بن عطار سيزار واسمه يوحي بأنه يهودي ولا ندري إن كان تونسيا أصيلا أم من الكولون ... الباحث الأكاديمي مصطفى هيلوف (23 مارس 2020) القبطان محمد بن شريف إنسان عربي أصيل متشبع بالثقافة العربية الإسلامية ... عندما كتب أول رواية باللسان الفرنسي في شمال إفريقيا وضع لها عنوانا يحمل دلالتين. الأولى هي أنه قد اختار اسم مصطفى للتلميح إلى اسم محمد لأن بطل الرواية ليس سوى كاتبها محمد بن شريف الذي يحكي سيرته من خلالها ... أما الدلالة الثانية فهي أنه حين استخدم مصطلح "الڤومي" فهو للفخر ب "ڤوم الأمير عبد القادر" ... لقد أراد القبطان بن شريف مخاطبة الفرنسيين بلسانهم ليقول لهم نحن لا نشبهكم ولا يمكنكم أن تجعلونا نسخة عنكم ... مثلما أراد أن يخاطبهم من خلال كتاب رحلة حجه حول أنه ينتمي إلى أمة لها حضارتها ... لقد تعرّض القبطان بن شريف الى تهميش وظلم وهو في ذلك قد ردّ بروايته على ما تعرّض له بنو قومه على يد تيار الأدبي التحرري الفرنسي "Les romanciers libertins" حين سعوا إلى تشويه الصحراء التي ظلت دوما تعني موطن الأصالة والصفاء والدين والأخلاق والمقاومة ضد المحتل ... الكاتب الصحفي الأستاذ خليفة عبد الحكيم (23 مارس 2020) القبطان محمد بن شريف يمثل حالة نموذجية للتضحية التي اضطر إليها بعض الجزائريين (الأهالي) تحت سلطة الاحتلال ... حيث أجبروا، بعد انهيار مقاومة الأمير عبد القادر، على التضحية في أن يكونوا وُسطاء يمثلون الأهالي أمام الإدارة الاستدمارية ... ورغم محاولات الإدارة لاستمالتهم واستخدامهم إلا أنهم من باب البراغماتية والواقعية فضلوا أن يخدموا الجزائريين تحت سلطة الأمر الواقع ... فالجلفة كان بها مستشفى عسكري وكان يمكن للنقيب محمد بن شريف أن يعالج فيه باعتباره ضابطا ودون التفكير في الآخرين من الأهالي لكنه أبى إلا أن يطالب بحق العلاج لهم ... ولو لم ينتشر وباء الحمى الصفراء سنة 1921 لما صدّق الكثيرون قصص معاناة الجزائريين نتيجة سياسة المحتل البغيض ... فمن لم يمت بالجوع والأمراض مات بالقنطة ... وللعبرة فإن ذلك يتكرر اليوم مع وباء كورونا التي لولاها لما انتبه أحد إلى وهن النظام الصحي الجزائري ... ولعل المركزية المفرطة لمعهد باستور بالعاصمة هي أوضح مثال في بلاد شاسعة وواسعة!! الأستاذ الروائي أحمد خير الدين: Je me suis rendu ensuite au lieu-dit Hadjr el Melh, où il habitait, pour voir son cadre de vie et les endroits qu'il avait aimés. Je m'attendais à trouver une belle résidence comme on m'en avait parlé, mais arrivé là, je fus vraiment surpris par le cachet tout à fait spécial de la construction. Sans grand étalage de richesse ou de mégalomanie, elle témoignait par la simple harmonie de son architecture, d'un génie certain et d'un goût délicat chez son propriétaire. En inspectant les environs, j'imaginais le Maître de céans évoluant dans ce décor. Puis, j'ai eu le sentiment de sa présence effective, comme s'il allait d'un moment à l'autre sortir sur le perron pour accueillir ses visiteurs. Son âme semblait toujours planer. L'esprit du capitaine Bencherif imprégnait encore sa demeure. الكاتب الصحفي الأستاذ عبد الرحمان شويحة (23 جويلية 2019): Tous ici nous étions frères, fils de Nail ; il a suffit d'un seul homme, Kouider, pour semer la discorde et partager le Goum en deux camps ennemis. Nous recommençons en petit ce que nos ancêtres ont fait en grand. Sans cette haine innée, nous serions peut être encore une grande nation. Ainsi parlait si Mohamed, premier écrivain Maghrébin et auteur du roman « Ahmed ben Mostapha » et « aux villes saintes de l'islam ». Des romans du genre autobiographique à une époque d'indigence littéraire et de faiblesse esthétique de l'entre deux guerre. C'est peut être, pour cette raison que ces romans n'ont pas connu de notoriété. Mais nous pensons sincèrement que la cause est tout autre, ces écrits sont de fort belle facture et d'un bon niveau intellectuel et s'ils n'ont pas intéressé la critique c'est surtout pour le message ambigu et embarrassant qu'ils transmettent et aussi la mort prématurée de leur auteur qui n'a malheureusement pas eu le temps de défendre sa thèse, car il s'agit bien de thèse comme le reste de la littérature des européens d'Algérie de cette époque. Contrairement à ceux qui ont survolé cette œuvre et condamner (sans le savoir peut être) son auteur, nous avons vu, au contraire, un nationaliste dans le sens moderne du terme. Un nationaliste qui contribua à éveiller les consciences et à tracer le chemin pour la cause que beaucoup épousèrent et qui aboutit quarante ans plus tard à l'indépendance de cette NATION qu'il rêvait. Ne défiait-il pas les élèves officiers français, quand tout jeune saint-cyrien, portant cette fougue et cette colère du vaincu, il sautait sur les tables des réfectoires en brandissant l'épée, tout comme l'émir Khaled son prédécesseur et son ami, qu'il a connu à Paris ainsi que bien d'autres activistes. Ce n'étais pas seulement les réunions mondaines qui l'attiraient. الدكتور عبد القادر حميدة (25 سبتمبر 2006) ولاعجب أن نجد الروائي يخلد إلى الراحة الأبدية بجانب ضريح جده داخل المصلى ولا عجب أن نعرف أن محمد بن الشريف مات من جراء مرض وطاعون نذر نفسه لمحاربته إنه (التيفيس). ولما تيقن من قضائه على ذلك الطاعون وضع الفارس سلاحه واتكأ يقلب صفحات روايته الخالدة وينظر بين الحين والآخر في صفحات كتابه (في مدن الإسلام المقدسة) الذي كان قد كتبه قبل ذلك عام 1919م، لا عجب اذا استراح المحارب لأنه حتما سيعود من جديد ... ولن أنسى قبل أن أغادر المصلى الذي أخط فيه هذه الكلمات وبالضبط أمام ضريح الروائي أن أجدد الاستفهام لكل الدارسين لتاريخ الرواية العالمية والجزائرية بشأن العلاقة بين الإسبانية كلغة وكأصل وبين أول رواية جزائرية، خصوصا اذا علمنا بأن جدة الروائي محمد بن الشريف ماهي إلا تلك الإسبانية الرائعة التي اعتنقت الإسلام (فاطنة العلجة) والتي أسرها الأمير عبد القادر الجزائري رفقة أختها وزوجها من جد الروائي. الأستاذ الباحث شويحة حكيم (25 مارس 2020) إن النقيب محمد بن شريف شخصية لو قدرت لها الظروف لدخلت التاريخ السياسي من بابهالواسع بعد أن دخل التاريخ الأدبي والانساني من أوسع أبوابهما ... فهو أول من خاض في عالم الرواية بلغة المستعمر و هو الجزائري المغامر المتعلم خريج أفضل المدارس الحربية آنذاك ... لا تبدو عليه الأرستقراطية من التواضع والاحسان ... شعر بظلم سياسة فرنسا اتجاه الأهالي وتشكل لديه الوعي بالنضال السياسي الا أنه لم تكتب له الحياة ليموت فداءا لأبناء قبيلته في سنة عم فيها الوباء والمجاعة رسالة الى القبطان من صديقه فيها نشيد ياباني بطاقة بريدية بعثها القبطان بن شريف من سويسرا اعلان صدور كتاب رحلة حج القبطان الحاج محمد بن شريف