قطعت الجزائر أشواطا هامة في مجال رقمنة القطاعات الحكومية، على غرار مصالح الحالة المدنية والعدالة والإدارات بفروعها، إلا أنها تصطدم دائما بمقاومة لوبيات المصالح وأصحاب المال الفاسد، حينما تفكّر في رقمنة القطاع المالي والمصرفي والبنكي والضريبي. أجمع الخبراء على أنّ الجزائر تشهد حالة تأخّر في المجال الرقمي المالي، الأمر الذي يكبّدها خسائر باهظة، فهذه اللوبيات تضغط دائما لمنع دخول الأموال المتكدّسة في السوق السوداء للقنوات الرسمية، وتسعى لتكريس البيروقراطية والهروب من الشفافية، فرقمنة المال تعود بالضرر على مصالحهم الخاصة. وأمام هذه المقاومة والضغوط تتوالى مساعي الجزائر منذ سنوات لرقمنة القطاع المالي، وبرمجة مشاريع كبرى في هذا المجال على غرار عصرنة الجباية ورقمنة مصالحها وإعداد بطاقية إلكترونية بأسماء المكلّفين بالضريبة، مع تكريس الدفع الإلكتروني على مستوى البنوك وتعميم بطاقات الدفع بين البنوك والبريد، ومؤخرا إلزامية تزوّد التجار بموزعات آلية، وهو القرار الذي سيدخل حيز التنفيذ بعد 31 ديسمبر 2021 كأقصى حد. الرقمنة وفق رؤية الرئيس تبون في أعقاب رئاسيات 12 ديسمبر الماضي، دخلت الجزائر عهدا جديدا بانتخاب رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، الذي رسم وفق خطته ملامح الجزائر الجديدة التي تعتمد على الرقمنة في كافة المجالات. وكان أهم ما تضمنته هذه الخطة استحداث وزارة جديدة، أطلق عليها الرئيس وزارة الرقمنة والإحصائيات، كما يحثّ في كافة خرجاته ومجالسه الوزارية على أهمية عصرنة الإدارات، والقطاع المالي والاقتصادي، وضرورة الإسراع في رقمنة كلّ القطاعات الاقتصادية والمالية لإزالة الضبابية المفتعلة في هذه القطاعات وتكريس الشفافية والنهوض بالاقتصاد الوطني. وعبّر الرئيس تبون، مرارا وتكرارا منذ دخوله قصر المرادية، عن استيائه من عدم رقمنة القطاعات الحساسة إلى غاية اليوم، لاسيما فيما يتعلق بقطاع الضرائب ومصالح أملاك الدولة، وسبق وأن أكّد الرئيس، أنّ هذه الإدارات لا زالت تعمل بطرق ووسائل قديمة تجاوزها الزمن، ولا تسمح بمعرفة ما يمتلكه الجزائريون من عقارات وشركات على المستوى الوطني، حيث يولي الرئيس، أهمية كبرى للرقمنة في برنامجه وأوصى وزراءه، كل على مستوى قطاعه بتكريس الرقمنة إلى أقصى نقطة يمكن بلوغها. 50 مليار دولار خارج البنوك ورغم كافة الإجراءات المتّخذة خلال السنوات الماضية، لاسترجاع أموال السوق السوداء والوعود المقطوعة من طرف المسؤولين في حقبة النظام السابق، ارتفع حجم الأموال النائمة خارج البنوك والبريد والقنوات الرسمية إلى أكثر من 50 مليار دولار وفقا لتقديرات أعضاء من لجنة المالية والميزانية بالمجلس الشعبي الوطني شهر سبتمبر 2020. ودفع تفشي فيروس كورونا وإجراءات الحجر الصحي التي أعقبته، عددا كبيرا من العائلات الجزائرية إلى سحب مدخراتها من البنوك وتوقف نشاط العديد من المتعاملين الاقتصاديين وبالتالي تراجع نسبة ضخ الأموال بنسبة 50 بالمائة. ويقول عضو لجنة المالية والميزانية بالغرفة السفلى للبرلمان الهواري تيغريسي، إنّ حجم الأموال المتداولة في السوق السوداء أو بعيدا عن أعين الضرائب، تمدّد اليوم ليصل إلى أكثر من 50 مليار دولار، وكان قبل 3 سنوات وفقا لتقديرات لجنة المالية والميزانية بالمجلس الشعبي الوطني يقارب 5 آلاف مليار دينار. وبلهجة تفاؤلية صرّح تيغريسي "رقمنة التعاملات المالية على مستوى البنوك والضرائب والمصارف، وتعميم استعمال الجزائريين لبطاقات الدفع الإلكترونية في السحب والدفع والخصم والإيداع سيسمح بضخ كميات كبرى من الأموال الموجودة في السوق السوداء في القنوات الرسمية"، مضيفا "ولكن يجب منح التحفيزات اللازمة لأصحاب الأموال وانتظار بعض الوقت للحديث عن النتائج". جدول يوضّح نمو النّقد خارج المصارف: 3500 مليار دينار سنة 2016، وفقا لتصريحات الوزير الأول 5000 مليار دينار سنة 2017، وفقا لتصريحات محافظ بنك الجزائر 50 مليار دولار سنة 2018، وفقا لتصريحات رئيس لجنة المالية والميزانية بالمجلس الشعبي الوطني أزيد من 50 مليار دولار سنة 2020، وفقا لتقديرات لجنة المالية والميزانية بالمجلس الشعبي الوطني الرقمنة.. بين الإرادة السياسية والشروط التقنية لعصرنة المؤسّسات المالية والمصرفية في الجزائر ورقمنة كافة التعاملات النقدية، يشترط الخبير في مجال التكنولوجيا والرقمية يونس قرار، وجود إرادة سياسية حقيقية مستعدة لمجابهة أولئك الرافضين للتكنولوجيا والمتسترين وراء التعاملات الورقية والتقليدية لإبقاء أموالهم بعيدا عن أعين الرقابة، كما تتطلّب الرقمنة توفير الشروط التقنية على غرار البنية التحتية وشبكة انترنت ذات تدفق عال، والربط بين كافة القطاعات عبر نظم وبرامج معلوماتية. ويقول قرار ل"المساء" "الأمر ليس بالصعوبة التي يتخيلها البعض فالجزائر لن تقوم بتجربة جديدة، فقط ستستنسخ ما هو متعامل به في البنوك والمؤسسات المالية في الخارج"، مشدّدا على أنّ رقمنة المال في الجزائر ستفتح عصرا جديدا للتعاملات المالية وستضمن الشفافية فيما يتعلق بالقروض الممنوحة لرجال الأعمال، وستبيّن أين تذهب الأموال، وستكشف عن رأسمال الشركات ومداخيلها الحقيقية وتحدّد رقم أعمال التجار وتوضّح من يدفع الضرائب ومن يتهرّب منها وفق محاسبات واضحة وشفافة، فاليد البشرية لن تتدخّل للتلاعب بالأرقام وكلّ الأمور ستتّضح بنقرة في الكومبيوتر. ويؤكّد الخبير أنّ الرقمنة اليوم أصبحت ضرورة العصر، فالجزائر اليوم باتت ملزمة وليست مخيّرة خاصة وأنّ العالم كلّه يسير في هذا التوجّه، مضيفا "وفي حين أنّ هنالك من يعرقل الرقمنة للدفاع عن مصالح شخصية، يجب توفر نية حقيقية لتجاوز العراقيل وفرض الرقمنة لأنّ مصلحة الوطن قبل مصلحة هؤلاء الأشخاص"، مشدّدا على أنّ العصرنة لن تحيلهم للتقاعد أو البطالة لكن ستفرض الشفافية. ويحصي يونس قرار، وجود أزيد من 6 ملايين بطاقة دفع إلكتروني في الجزائر بين البريد والبنوك، لكن معظم أصحابها يتركون هذه البطاقة جانبا ويفضّلون التعاملات النقدية، وهو الأمر الذي يجب تجاوزه عبر تحسيس زبائن البنوك بالحلول المتاحة عبر هذه البطاقات والامتيازات التي تتضمنها. فرصة ثانية للتجار.. وكان يفترض أن تنتهي آجال المهملة الممنوحة للتجار من طرف الحكومة، لتعميم أجهزة الدفع الإلكتروني على مستوى محلاتهم بتاريخ 31 ديسمبر من السنة الجارية، إلاّ أنّ الجهاز التنفيذي فضّل منح هؤلاء فرصة ثانية وتأجيل إلزامية هذه الأجهزة إلى 31 ديسمبر من السنة المقبلة. وتؤكد المادة 141 من مشروع قانون المالية لسنة 2021 "إلزام كل عون اقتصادي بأن يضع تحت تصرف المستهلك أدوات الدفع الإلكتروني للسماح له بطلب منه بتسوية المبالغ المالية لمشترياته عن طريق حسابه البنكي أو البريدي الموطّن لدى بنك معتمد أو بريد الجزائر، مع وجوب التزام الأعوان الاقتصاديين بأحكام المادة في أجل اقصاه 31 ديسمبر 2021 ". ويحذّر البروفيسور في مجال الحوكمة الاقتصادية عبد القادر بريش، من أن يصبح مصطلح الرقمنة مبتذلا ويفرغ من محتواه، قائلا في إفادة ل"المساء" بأنّ البنوك اليوم تشتغل بأنظمة معلوماتية ومحاسبية، وما تحتاجه هو تحديث وعصرنة عملها وإدخال التكنولوجيا المالية التي تعدّ خطوة متقدّمة عن الرقمنة، وتحرير نشاط البنوك من التسيير البيروقراطي واعادة النظر في حوكمة البنوك العمومية وعصرنة التسيير وادارة المخاطر وتنويع المنتجات البنكية وصيغ وأدوات التمويل وإتّباع أساليب التسويق الحديثة لاستقطاب الزبائن. 7 تحديات للرقمنة في الجزائر الجديدة وتصطدم رقمنة المال في الجزائر بجملة من العراقيل أكبرها مقاومة لوبيات المال التي ترفض الشفافية في تعاملاتها، وتفضّل أن تبقى الكتل المالية المتداولة في السوق السوداء بعيدة عن البنوك والمصارف والقنوات الرسمية. ويشتكي الخبراء أيضا من غياب حملات توعوية وتحسيسية لشرح مضمون وجدوى الرقمنة أمام الزبائن، والمزايا التي تتضمّنها هذه الخطوة، ويوضّح عضو لجنة المالية بالمجلس الشعبي الوطني الهواري تيغريسي، "لا ننتظر اقتناع المواطنين بالتخلي عن النقد ولجوئهم للبطاقات الإلكترونية وأجهزة الدفع والخيارات الرقمية دون توعيتهم وتحسيسهم بذلك، وشرح الخيارات المتاحة أمامهم". ويضيف تيغريسي، أنه من بين التحديات التي تواجه رقمنة المال في الجزائر غلاء أسعار أجهزة الدفع الإلكتروني، التي يجب بيعها بالتقسيط للتجار، وهي المفروضة بداية من الفاتح جانفي 2022 بشكل إلزامي، وكذلك البيروقراطية الممارسة على مستوى البنوك العمومية والتي تنفر الزبون من كافة منتجاتهم وتجعله يفضّل ادخار أمواله نقدا في منزله بعيدا عن البنك. ويعدّ أحد أسباب نفور المواطن من الخيارات الرقمية المتاحة على مستوى البنوك غياب الثقة بين البنك والزبون، وأيضا غلاء سعر الخدمات وفقا لتيغريسي، الذي يدعو إلى تسهيلات أكبر وتحفيزات أعلى مستقبلا، ناهيك عن التخلّف التكنولوجي، وانقطاعات خدمات الأنترنت وشبكة الهاتف النقال، وهي عراقيل تقنية تعطّل الرقمنة وتعيدها في كلّ مرة إلى نقطة الصفر.