أخيرا كشف الرئيس الأمريكي عن استراتيجيته الجديدة في أفغانستانوباكستان بعد شهرين من البحث عن أحسن البدائل للتعاطي مع هذا المأزق ولاقت ترحيب السلطات في كابول كما في اسلام اباد ولكن ذلك لم يمنع من التساؤل حول جدواها في حسم وضع معقد بنفس تعقيدات هذين البلدين الاقتصادية والاجتماعية والتداخلات الجغرافية والقبلية القائمة بينهما. فقد زاوج الرئيس باراك اوباما بين لغة القوة والمال ضمن مشروع ضخم أشبه بمشروع مارشال خاص بهذين البلدين بعد أن التهمت المغامرة التي قام بها الرئيس الأمريكي السابق آلاف ملايير الدولارات طيلة الثماني سنوات الأخيرة دون أن تحقق الهدف المسطر لها مسبقا وهو اعتقال زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن. وإذا كان الرئيس بوش فشل في هذه المهمة عمليا ونجح فيها لتمرير سياسته والدفاع عن مقارباته أمام خصومه بدعوى محاربة الإرهاب إلا انه في النهاية ترك بلاده وخليفته أمام مأزق حقيقي معطياته لا تبشر بخروج سلس وبنفس درجة الابتهاج التي رافقت عملية الاحتلال سنة 2001. ويؤكد الشق العسكري في المبادرة الأمريكية وإرسال البنتاغون لمزيد من القوات الميدانية والتدريب أن الحل ليس ليوم غد بل انه يبقى من مجاهيل معادلة صعب حلها حتى على واضعي استراتيجية احتلال أفغانستان. وتكمن صعوبة هذه المهمة أن حركة طالبان وتنظيم القاعدة تمكنا من إعادة ترتيب أوراقهما في المواجهة العسكرية المفتوحة بين قرابة 100 ألف عسكري من القوات الأمريكية والأطلسية والأخطر من ذلك أن التنظيمين اللذين كانا ينشطان في إطار الحدود الدولية الأفغانية تمكنا طيلة سنوات الحرب التي أعقبت الإطاحة بحركة طالبان من توسيع رقعة تحركهما وامتدادها إلى داخل العمق الباكستاني وبدعم من سكان القبائل في البلد التي آوتهما ومنحتهما الملاذ الآمن في مناطق سيطرتها. وكان ميلاد حركة طالبان باكستان بمثابة مؤشر على صعوبة مهمة وحدات المارينز الأمريكية وهي التي فشلت في مهمتها أمام طالبان أفغانستان. وتكمن أهمية مثل هذا المعطى في كون الحدود الدولية بين باكستانوأفغانستان فقدت معناها وهو ما يفسر الملاحقة التي تقوم بها الطائرات الأمريكية إلى داخل العمق الباكستاني بدعوى مطاردة عناصر القاعدة وحركة طالبان الأفغانية. والأكثر من ذلك فإن اللغة العسكرية الأمريكية تغيرت في التعاطي مع الوضع من اتهام أفغانستان بكونها مصدر "الخطر الإرهابي" الأول على كل العالم إلى تحويل هذا الاتهام الى باكستان وسط ارتياح من الرئيس الأفغاني حامد كرازاي الذي اعتبر ذلك مكسبا لحكومته بعد سيل الاتهامات الموجهة له بالفشل. وتدرك إدارة الرئيس الأمريكي الجديد أن لغة القوة وحدها لن تجدي نفعا في ملاحقة مقاتلين هم اشبه بإبرة داخل كومة تبن وهو ما جعله يراهن على الأموال لكسب ود المدنيين الأفغان الذين ضاقوا ذرعا من احتلال أمريكي مقيت وفقر مدقع وضبابية بلغت درجة السواد حول امكانية الخروج من المآسي التي يعيشونها منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي. وهو ما جعل الرئيس باراك اوباما يزاوج بين ترسانة عسكرية ضخمة مع أموال باهضة لتحسين ظروف المعيشة لسكان أنهكتهم الحرب والخوف والغد غير المضمون بهدف كسب ودهم والالتفاف حول حكومة فقدت ثقتهم ومالت مع سنوات الاحتلال إلى جانب حركة طالبان. وعندما ندرك أن نتائج مثل هذه السياسة ليست مضمونة بطريقة آلية وخاصة في مجتمع بنفس تركيبة وتعقيدات المجتمع الأفغاني نعرف أن خطة باراك اوباما قد تلقى نفس مآل الخطة العسكرية لسابقه ولكن بتكلفة أكبر. ويبدو أن الرئيس الأمريكي أدرك منذ البداية مثل هذه الإشكالية على خزينة بلاده مما جعله يلقي بكل ثقله العسكري والمالي لحسم الوضع اليوم قبل غد في ظل أزمة مالية أنهكت الاقتصاد الأمريكي وأدخلته مرحلة كساد محتوم مما يجعله غير قادر على تحمل المزيد من النفقات. ولكن مهمة إصلاح المؤسسات والهيئات الرسمية الأفغانية وحتى المراهنة على القضاء على الرشوة تبقى مهمة طوباوية لا لسبب إلا لكون الدولة الأفغانية انهارت بعد ان أصبحت عقلية الولاء للقبيلة والعرق اكثر منها للدولة الأمة. ثم إن مهمة محاربة الرشوة في بلد أصبحت فيه ظاهرة سائدة ومفروضة يبقى صعبا إن لم نقل مستحيلا على الأقل خلال العشر سنوات القادمة وهي مدة قد تجعل الولاياتالمتحدة لا تقدر على تحملها. وتلك هي إشكالية التحدي الصعب الذي قد يجعل الولاياتالمتحدة تغادر أفغانستان وتتركه لمصيره المجهول تماما كما فعلت في فيتنام قبل 34 سنة وكما فعل الاتحاد السوفياتي قبلها بسنوات.