يؤكّد واقع التغطية الصحية بولاية الجزائر أنّ النمو الديمغرافي المتزايد، لا زال بحاجة ماسة إلى هياكل وموارد بشرية وتجهيزات تفي بالغرض المطلوب، وتزيل تلك الطوابير الطويلة والضغط المسجّل على المصحات وأكثرها المستشفيات، التي يتدفّق نحوها مواطنون كثيرون من الولايات الأخرى، ويؤكّد من سألتهم "المساء" عن عملية التكفّل أنّ "كوفيد "19 الذي أخلط كلّ الأوراق كان بمثابة المحك الذي كشف نقاط القوّة والضعف في مجال التكفّل الصحي، وأظهر جوانب النقص الحاصل، سواء ما تعلّق بالهياكل، التجهيزات، الموارد البشرية، وكذا أخلاقيات المهنة، وأهمها المنظومة الصحية التي تتحكّم في سيرورة القطاع. "كوفيد19"عطّل العمليات الجراحية لم تمنع جائحة "كوفيد 19" من استمرار المستشفيات في تقديم خدماتها المنوطة بها، رغم تحويل العديد من المصالح إلى أجنحة معزولة خاصة بمرض كورونا، وكانت الموجة الأولى تشكّل عبئا كبيرا على هذه المصحات التي كانت تستقبل عددا هائلا من المرضى وذويهم، ومع قلة الإمكانيات، حسب ما أكده ل"المساء" مستخدمو السلك الطبي، الذين اعترفوا أنّ موجتي الوباء الأولى والثانية أثّرت على سيرورة العمل في المصالح الصحية، لاسيما بعد توقف العمليات الجراحية المبرمجة، ومواعيد الفحوصات والمراقبة الطبية والكشوفات والتحاليل، حيث استحوذت عملية التكفّل بمرض "كوفيد19" على أغلب النشاطات الصحية. ومثال ذلك، ما ذكرته الدكتورة كنزة زبوج رئيسة مصلحة علم الأوبئة والطب الوقائي بمستشفى "سليم زميرلي" بالحراش، الذي يضم 1200 عامل، قائلة إنّ الطاقم الطبي خلال الموجتين الأولى والثانية، كان يتكفّل بالمصابين الذين هم في حالة حرجة، لاسيما ممن يعانون من أمراض مزمنة أو مسنين ذوي مناعة ضعيفة، ومساعدة الآخرين على التزام الحجر المنزلي واستعمال البروتوكول الصحي اللازم، وقد تمّ توفير 70 سريرا. وتضيف محدثتنا أنّ التكفّل بالمصابين بجائحة كورونا أثّر كثيرا على جدول مواعيد العمليات الجراحية، لاسيما مصلحة جراحة المخ والأعصاب التي يتخصّص فيها مستشفى "زميرلي"، وما زاد الطين بلة، حسب مدير المستشفى عبد الحميد بوشلوش هو توقّف هذه العمليات بعدّة مستشفيات بالعاصمة ك"آيت إيدير" وخارجها ك"فرانس فانون" بالبليدة و"سيدي غيلاس" بتيبازة، ما خلق ضغطا كبيرا على مستشفى "زميرلي"، الذي لم تتوقّف به العمليات بهذا الاختصاص الهام، رغم الظروف الصعبة التي فرضها فيروس كورونا. وقالت الدكتورة نعمية بن جدة المديرة الفرعية للنشاطات الطبية وشبه الطبية، إنّ جائحة كورونا أثّرت على مواعيد إجراء العمليات الجراحية، علما أنّ المستشفى يتوفّر على أربعة اختصاصات جراحية، أهمها مصلحة جراحة المخ والأعصاب، التي لا يمكن أن تتوقف، لاسيما وأنّ المستشفى أمضى اتفاقيات مع عدّة مستشفيات بولايات الوطن، لكن، حسب الدكتورة بن جدة، فإنّ مواعيد إجراء العمليات العامة، كجراحة العظام، جراحة الطب الداخلي، الجراحة العامة، توقّفت بسبب الظروف الوبائية، لكون الطاقم الطبي كان منشغلا بحالات كورونا، ما عدا الحالات المستعجلة، التي لا تتطلّب التدخّل، كما يؤكّد أطباء مستشفى "زميرلي" أنّ انخفاض حدّة الجائحة، مكّن من استئناف العمليات الجراحية في التخصّصات المعطّلة، وذلك منذ سبتمبر الماضي، ويتم التكفل بأصحاب المواعيد المبرمجة، الأوّل فالأوّل. وكذلك الأمر بالنسبة للمستشفيات الأخرى، لاسيما الكبرى منها، كبني مسوس، التي سخّرت معظم إمكانياتها لمواجهة الجائحة، وواجهت ضغطا منقطع النظير، ما استدعى التضحية بخدمات أخرى كان "كوفيد 19" أكثر منها أهمية وخطورة. ويأمل مسؤولو المصحات العمومية الكبرى أن تتدعّم مؤسّساتهم بمختلف التجهيزات الضرورية، خاصة ما تعلّق بأجهزة التخدير والإنعاش وأجهزة التنفس الاصطناعي، التي كانت تشكّل حجر الزاوية في عملية التكفّل بالمصابين بفيروس كوفيد19، يفيد مدير مستشفى "زميرلي"، مؤكّدا أنّ مصلحة الاستعجالات الطبية الجديدة، كجناح منفصل عن المصالح الأخرى، من شأنه أن يحسّن الخدمات الصحية، ويرفع الضغط الحاصل بالمصلحة الحالية التي تشهد ضغطا كبيرا، لا يخدم المريض والطاقم الطبي على حد سواء. القانون الردعي يضع حدا لحالات الاعتداء ويشكّل عامل الأمن بالمؤسّسات الصحية هاجسا كبيرا، خاصة في ظلّ جائحة كوفيد19، التي ظهرت معها العديد من حالات الاعتداء على الطواقم الطبية وعمال الإدارة وأعوان الأمن وغيرهم من مستخدمي قطاع الصحة، ويؤكّد الأطباء والمسؤولون الإداريون الذين سألناهم عن هذا الملف، أنّ الاعتداءات كانت منذ سنوات تحدث وتتكرّر، لكون الإجراءات العقابية لم تكن صارمة بالشكل المطلوب، انطلاقا من الإطار القانوني الموجود والصلاحيات المخولة لجهاز العدالة وكذا مصالح الأمن، لمتابعة المعتدي ومعاقبته، وعدم التساهل في ذلك. وقد استحسن محدثونا القوانين الجديدة، التي أعادت الاعتبار لمستخدمي قطاع الصحة، وحمايتهم من كلّ الاعتداءات، وكانت حادثة مستشفى عين الملح بولاية المسيلة النقطة التي أفاضت الكأس، حيث قرّر بعدها رئيس الجمهورية إصدار قانون يجرّم الاعتداء على عمال الصحة، الذي صدر في الجريدة السمية في أوت الماضي وينص على عقوبات بالحبس من عامين إلى 5 سنوات وغرامة مالية من 200 إلى 500 ألف دينار لكل من أهان مهني الصحة أو أحد موظّفي ومستخدمي الهياكل والمؤسّسات الصحية بالقول أو الإشارة أو التهديد أو بالكتابة أو الرسم خلال تأدية مهامهم أو بمناسبتها، كما يتم يعاقب كل من يخرب الأملاك المنقولة أو العقارية للهياكل والمؤسّسات الصحية، وكلّ من يسجّل مكالمات أو حديثا أو التقاط أو نشر صور أو فيديوهات أو أخبار أو معلومات في شبكة إلكترونية أو في مواقع التواصل الاجتماعي قصد المساس أو الإضرار بالمهنية أو بالسلامة المعنوية للمهنيين والمستخدمين. ويقرّ مستخدمو الصحة أنّ حالات الاعتداء تكاد تكون منعدمة، بفضل القانون الجديد، وحسب المختصين في الشؤون القانونية بمصلحة المنازعات لمستشفى "نفيسة حمود" (بارني) بحسين داي فإنّه من شأن الإجراءات الجديدة أن تمنع تلك الاعتداءات، التي يتعرّض لها مستخدمو الهياكل الصحية، لأنّ المعتدي، وفق القانون الجديد، لن يفلت من العقاب، ويتم تقديمه للعدالة فورا ويتم صدور حكم بشأنه بصفة استعجالية، على عكس القانون السابق الذي لا يضمن مبدأ الاستعجال، ما يشجّع على تكرار مثل هذه الاعتداءات. المطلوب دعم أكثر لتحسين الخدمات ويؤكد من سألتهم "المساء" عن واقع الخدمات الصحية بالعاصمة أن ما يجب أن تتداركه السلطات العليا هو أن تجد حلولا لبعض الاختصاصات غير الموجودة بالولايات الأخرى، وعلى رأسها مركز علاج مرضى السرطان، جراحة المخ والأعصاب، جراحة القلب، التي شكّلت ضغطا على المستشفيات الجامعية والمتخصّصة، وحسب الدكتور محمد ملهاق الباحث في علم الفيروسات والمهتم بالسياسات الصحية فإنّه حتى مع وجود اختصاصات في ولايات أخرى، فإنّ المواطنين يبحثون عن علاج نوعي بالعاصمة، التي تعدى عدد سكانها اليوم أربعة ملايين نسمة، ولم يقابل هذه الكثافة السكانية وفرة في الهياكل الصحية، خاصة بالأحياء الجديدة، التي لا زالت تشكّل ضغطا كبيرا على مصالح الاستعجالات بالمستشفيات. ويرى محدثنا الذي أشرف على لجنة الصحة بالمجلس الشعبي لولاية الجزائر لثلاث عهدات متتالية، أنّه يجب أنسنة المصحات، وحسبه فإنّه بقدر ما نحتاج إلى إمكانيات مادية وبشرية، فإنّنا بحاجة إلى أخلاقيات، كعامل يدفع بالخدمات الصحية إلى الأمام، ومربط الفرس في ذلك التكوين المستمر للعنصر البشري وتشجيعه، من أعلى رتبة في السلك الطبي إلى آخر عون في القطاع الصحي، ولا ينفي المصدر أنه يوجد نقص في بعض التخصّصات، ومنها الإنعاش والتخدير، وتخصّص العناية المركّزة وهو ما كشفته ظروف "كوفيد 19"، ما يتطلّب تكوين كوادر متخصّصة تتكفّل بهذا الجانب، وفي هذا السياق يؤكّد الدكتور ملهاق أنّ خيرة الأطباء في الإنعاش والتخدير والعناية المركزة ذهبوا إلى أوربا ودول الخليج، لكون هذه الدول تعرف قيمة هذا التخصّص المفصلي. ولتخفيف الوطأة على المصحات العمومية قال محدثنا إنّه من المهم أن يعاد النظر في مجانية العلاج ووجهة الدعم المقدّم للمواطن، ولا يعقل أن يستفيد الفقير والغني من العلاج المجاني، ما يتطلّب وضع بطاقية وطنية لمستحقي العلاج المدعم، مثلما تقوم به السلطات بشأن قفة رمضان التي تحدّد من خلالها المستوى المعيشي للمواطن. وبرأي محدثنا فإنّ أمر ترقية الخدمات الصحية مرتبط بالمنظومة الصحية، التي يجب أن تخضع لإعادة النظر، وهو ما ألحّ عليه رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون في أفريل الماضي، مشدّدا على حتمية مراجعتها لتخفيف المتاعب على المواطن، وأن أزمة كورونا تعدّ فرصة لمراجعة المنظومة الصحية من الأساس. كما يربط الدكتور ملهاق تحسين الخدمات بمبدأ "الأمن الصحي" الذي أصبح، حسبه، مربوطا بالأمن القومي، الذي تتقاسمه العديد من القطاعات كالتجارة، الصناعة، الفلاحة، وعدم تحميل المسؤولية كاملة لقطاع الصحة، مفيدا أنّه من الواجب إقحام هذه القطاعات في المحافظة على الأمن الصحي، الذي أفردت له الدولة، وفق النظرة الجديدة، هيئة خاصة به يرأسها البروفيسور كمال صنهاجي.