تعود إلينا الذكرى الأربعة والأربعين من وفاة شاعر الثورة التحريرية الجزائرية المباركة مفدي زكريا في 17 أوت 2021، لإحياء مآثر ومناقب الرجل الوطني الثائر، الذي تغنى بحب الوطن من خلال قصائده الشعرية ومقالاته الأدبية الرفيعة، المنشورة في الصحافة الجزائرية والعربية. سنقف في هذا المقال على جانب مهم من النضال الوطني لمفدي زكريا، وهو الجانب الصحفي، الذي لم ينل نصيبه من الاهتمام بما يكفي، بحيث سنتناول إسهاماته الجلية في الصحافة، من البدايات الأولى لاهتمامه بميدان الإعلام، إلى التداعيات الناجمة عن كتاباته الجريئة، مما كانت الصحف العربية تتهافت إلى نشرها، لترصع بها صفحاتها، بالنظر إلى مستواه البليغ، ومواضيعه ذات الطابع الوطني الثوري، حيث كان يوقع إنتاجه الصحفي تارة باسمه الصريح، وتارة بأسماء مستعارة وهي: فتى ميزاب، شاب جزائري، مسلم صميم، فتى الوادي، فتى المغرب، ابن تومرت، أبو فراس الحمداني، الفتى الوطني، ديك الجن. نظرة مفدي زكريا تجاه الصحافة: كان يؤمن مفدي زكرياء إيمانا راسخا برسالة الصحافة الرامية إلى التأثير في الشعوب، ورفع وعي المجتمع، وتنوير الرأي العام، ومحاربة الأعداء العابثين بالأوطان، حيث كان يراها سلاحا فتاكا لدحض القوة الاستعمارية، وبث الروح الوطنية في المناضلين الأحرار. وعن أهمية تأثير الدور الإعلامي للجريدة في المجتمع، نشر مفدي زكرياء مقالا بعنوان "كلمتي في وادي ميزاب"، المنشور في العدد السادس من جريدة وادي ميزاب الصادر يوم 05 /11 /1926، وجاء فيه: "الجريدة: لسان الأمة الصريح الذي لا يعرف المداجاة ولا المداهنة، وهي لغة من لغات المدنية الجديدة المتعددة، الرافعة عقيرتها صارخة في هذا الفضاء الفسيح "حي على الحياة، حي على الحياة". نعم هي سيف ذو حدين: إن أحسن المرء استعمالها، كانت بيده سلاحا عتيدا يصد به صدمات المعتدين، ويذود عن حماه به كيد العابثين، وإن أساء استعمالها انقلبت عليه وبالا، فأصبح كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا بقي!!..". ومن طموح مفدي زكرياء، المشاركة بالكتابة في بعض الجرائد العربية المشهورة بنزعتها الوطنية آنئذ، إيمانا منه بأن القضية الجزائرية من مسؤولية الصحافة المشرقية أيضا، وذلك ما نقرؤه من خلال ما جاء في إحدى رسائله إلى الشيخ أبي اليقظان من سجن الحراش، مؤرخة في 23 /07 /1939: "سيدي، كم يلذ لي أن أخبركم أنني توصلت إلى اتفاق مع الأستاذين العظيمين الشيخ محمد علي الطاهر والأستاذ أحمد حسنين رئيس حزب مصر الفتاة، أن يخصصا في جريدتيهما "العلم المصري" و"مصر الفتاة" صحيفتين للمغرب العربي وشمال إفريقيا وحوادثه ومشاكله وقضيته المباركة، ولعل هذا من أهم الأعمال التي تجعل لقضيتنا المقدسة قيمة يعتد بها في نظر الشرق، وتحملهم على أن يعطفوا عليها ويعينوها بأقلامهم وأفكارهم، بعد أن كانوا لا يحملون بها أصلا ولا يرون لها قيمة، والمسؤولية في ذلك راجعة علينا، حيث أننا لم نحسن الدعاية لأنفسنا..." بدايات اهتمامه بالصحافة: كان زكريا (الطالب) يطالع المجلات والجرائد القادمة من منطقة الشرق الأوسط، ويشترك مع زميله الشاعر رمضان حمود في مناقشة مضمونها، كما كان يشرف على مجلة اسمها "الوفاق"، يتخذها طلبة البعثة العلمية المزابية بتونس مساحة للتكوين وتدريب الأقلام، وتشجيع المواهب الشابة الصاعدة. وترك في هذه المجلة إنتاجا غزيرا تنوع بين الشعر والنثر، يمثل مرحلة الطفولة الأدبية أحسن تمثيل. إسهامات مفدي الصحفية: عند تفحص الإنتاج الصحفي لمفدي زكريا في الصحف الوطنية والعربية، يكاد يصعب التفريق بين ما أرسله هو بنفسه، إلى إدارة الجرائد لنشره، وبين ما تداولته الصحف لإعادة نشر أعمال مفدي الأدبية، خاصة أنه كان اللسان الفصيح اللاذع ضد الاستعمار الفرنسي، والمدافع القوي عن القضية الجزائرية. وبحسب ما توصلنا إليه من بحث معمق حول هذا الموضوع، فقد ساهم مفدي بأعماله الأدبية في 34 صحيفة عربية أغلبها (جزائرية، تونسية، مغربية، مصرية، سورية) تنوعت بين 41 مقالا ودراسة، و76 قصيدة شعرية، خلال الفترة الممتدة ما بين 1925 وإلى غاية 1975. وقد تركز نشاطه في الصحافة التونسية التي انطلق منها بنشر 18 مقالا، و36 قصيدة في 19 صحيفة وهي: (الوزير، النديم، صبرة، تونس الفتاة، الفكر، الزهرة، النهضة، الصباح، المجاهد، لسان الشعب، طلبة شمال إفريقيا، تونس، الشباب، العمل الثقافي، الوطن، الأسبوع، الإلهام، الإذاعة)، ثم تليها الصحافة الجزائرية في المركز الثاني بنشر 22 مقالا، و29 قصيدة منشورة في 10 صحف: (الأمة، البصائر، الحياة، الشهاب، النور، وادي ميزاب، الأصالة، مجلة الثقافة، المغرب، المعرفة). وفي الدرجة الثالثة، مساهمته في الصحافة المغربية بنشر مقال واحد عن دور الإعلام في تقويم أو تعقيم الأجيال الصاعدة إزاء الصراعات الفكرية المعاصرة، وثماني قصائد نشرها في مجلة دعوة الحق، كما ساهم أيضا في الصحافة المصرية بنشر قصيدتين في ثلاث جرائد وهي –(اللواء، الأخبار، والهلال). فيما نشر قصيدة واحدة في مجلة المعرفة السورية. وقد نشر مفدي أول قصيدة شعرية له أسماها ب"إلى الريفيين" في جريدة "لسان الشعب" بتاريخ 06 /05 /1925، وجريدة "الصواب" التونسيتين؛ ثم في الصحافة المصرية "اللواء"، و"الأخبار". في سنة 1933، أسس بالجزائر العاصمة، هو وجماعة من التجار المزابيين "جمعية الوفاق"، التي أصدرت جريدة باسم "النجاح"، وأسندت إدارة تحرير قسمها العربي إلى مفدي، وكانت جريدة متعددة الاهتمامات، فهي، اجتماعية وسياسية واقتصادية وأدبية أيضا، حيث صدر أول عدد منها يوم أول أفريل 1933، لكنها لم تستمر طويلا، إذ لم يصدر منها سوى ثلاثة أعداد. كانت له إسهامات جليلة في الصحافة الجزائرية الإصلاحية، فإلى جانب إثرائه لصحف الشيخ إبراهيم أبو اليقظان (رائد الصحافة الجزائرية) بشعره ومقالاته، شارك أيضا في صحف إصلاحية، مثل "المرصاد"، وحين نشأت "المعيار" ذات الاتجاه المعادي للإصلاح، استدعته طائفة من الشباب الإصلاحي ليقف إلى جانبهم في الرد على حملات "المعيار"، وعرفته جريدة "الجحيم" كاتبا مقذعا يثير الخصوم بقرصاته. واكب مفدي الأحداث التي نجمت غداة انعقاد المؤتمر الإسلامي الجزائري الثاني، المتمثلة في المواجهة العلنية للمنتمين لحزب الشعب ضد سياسات الدمج والإلحاق، واكبها من خلال مقالاته الضافية التي نشر أغلبها في الصحف التونسية. حيث تميزت كتاباته تلك بالتصعيد لتلك المواجهة، وبالتحليل الدقيق لكل التيارات التي تمخض عنها المؤتمر الإسلامي، وقد بلغت ذروة التصعيد يوم 14 /07 /1937، بتنظيم مظاهرة شعبية ضخمة في شوارع العاصمة تغني نشيد فداء الجزائر وتطالب بالحرية والاستقلال. ترأس مفدي تحرير جريدة الشعب لسان حال حزب الشعب الجزائري، ويتضح من خلال العدد الأول والوحيد إبداعه النثري والشعري، ولعل تلك المقالات النارية من أسباب سجنه، وفور مظاهرة 14 جويلية 1937 بيومين، ألقت السلطة الاستعمارية القبض على رئيس حزب الشعب مصالي الحاج، وعلى رئيس اللجنة التنفيذية مفدي زكرياء، وظل في السجن إلى غاية أوت 1939، لكنه كان وهو في السجن شعلة نضال متوهجة يكتب المقالات السياسية والقصائد الثورية ويرسل بها خفية لتنشر بالصحف التونسية، مثل "تونس الفتاة"، و"صبرة" تحت ركن (من أعماق بربروس)، موقعة بإمضائه الصريح والمستعار (أبو فراس الحمداني، أو الفتى الوطني) في سنة 1937، كما أصدر وزملاؤه بسجن الحراش جريدة "البرلمان الجزائري الأسبوعية"، التي ظهر عددها الأول في 18 أوت 1939، تأكيدا على المطلب الذي ما فتئ حزب الشعب يدعو إليه وهو تأسيس برلمان جزائري حر، وصدر منها سبعة أعداد، قبل توقيفها في 27 أوت 1939 من طرف السلطات الاستعمارية. نشرت جريدة "تونس الفتاة" في أوت 1939 ما أسمته "نصائح كتبها الصديق المجاهد مفدي زكريا، الزعيم الجزائري المعتقل حاليا في سجن بربروس"، كما نشرت له بالمناسبة أيضا "وحدة شمال إفريقيا، وعقيدة توحيد شباب الأقطار الثلاثة، ببنودها العشرة". وقد نقلت عنها جريدة "الحرية" المغربية (لسان الحال الرسمي للحزب الوطني الإصلاحي)، التي نشرت يوم 20 /08 /1939. وقد أذيعت البنود العشرة كذلك في راديو برلين، في حصته ليوم 31 أوت 1939؛ مقتطف من مجلة الصحافة ليوم 31 /08 /1939 بالمغرب. وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، أفرج عن مفدي، ولكنه كان لا يخرج من السجن إلا ليعود إليه مرة أخرى، إذ ما لبث أن عاد إلى المشاركة في تحرير جريدتين وطنيتين سريتين أنشأهما حزب الشعب، وهما "الوطن"، و"لاكسيون ألجيريان" (الصحيفة السرية للشباب المضاد للإمبريالية)، فاعتقل مرة أخرى سنة 1940 بتهمة المساس بأمن الدولة الخارجي، وحكم عليه بالسجن مدة ستة أشهر. كما نشر مفدي كذلك ثلاث مقالات حول منطقة وادي مزاب بولاية غرداية، جنوبالجزائر، وهي مسقط رأسه، في "المغرب العربي" خلال فيفري 1948. وفي ديسمبر 1954، حاول مفدي تأسيس جريدة بالتعاون مع خاله المفكر المصلح حاج ناصر محمد، على أن يكون اسمها "وادي ميزاب"؛ فعقدا في الجزائر اجتماعا للأعيان المزابيين، وطلبا منهم المساعدة لإصدار هذه الجريدة، برأس مال بأسهم، قدر ب 6 ملايين فرنك، واتصلا أيضا -فيما يبدو- بالشيخ توفيق المدني، ليكون عضوا في مجلس الإدارة. وعندما بلغ الخبر إلى الزعيم المصلح الشيخ إبراهيم بيوض، ذهب إلى الجزائر، وعقد اجتماعا آخر مع الأعيان المزابيين، فكان له كلام "عنيف" مع مفدي وحاج ناصر، قائلا بأنه ليس هذا أوان إصدار جريدة. اعتقادا منه بأن الفترة الأولى من عمر ثورة نوفمبر 1954 هي مرحلة المواجهة بالقوة والسلاح والتخطيط العسكري، مما لم تراجعا عن إطلاق مشروعهما. وفي 5 ديسمبر 1955، حرر بالتعاون مع خاله محمد حاج الناصر "رسالة مفتوحة إلى حاكم مزاب"، نشرها في الصحيفة الناطقة باسم حزب الاستقلال المغربي "الرأي العام"، يوم 14 ديسمبر 1955م، هاجم فيها السلطات الفرنسية. فطالب الحاكم لمنطقة غرداية بإصدار قرار يقضي بمنع إقامة مفدي وحاج ناصر بالجنوب. في مارس من سنة 1959، تمكن من الهرب متخفيا إلى المغرب، ومن ثمة إلى تونس لتلقي العلاج، إثر التعذيب الذي تعرض إليه في السجن، فأنهك جسمه وحواسه. لكن هذا لم يمنعه من المشاركة بشعره ونثره في صحيفة "المجاهد الأسبوعي" اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني، وفي غيرها من الصحف التونسية والمشرقية، فإن صوت مفدي المدوي كان يصل إلى أجهزة الإعلام المشرقية إلى كل من القاهرة، ودمشق، وبيروت، فكانت جريدة "الحياة اللندنية" تنشر إنتاجه وتعتز به، وكان شعره الثوري يُلقى بالنيابة عنه من إذاعة "صوت العرب"، وقد ألقى بعض قصائده الشاعر الدكتور صالح خرفي. وعندما استقر في تونس سنة 1959، تفرغ للإبداع الأدبي، وساعد في تحرير الأوراق الثقافية في الصحافة التونسية، وقد كان أغلبية الجزائريين يترقبون يوميا الحديث الافتتاحي لمفدي زكرياء في إذاعة تونس. وذكر الأستاذ الراحل لمين بشيشي، أحد أصدقاء مفدي وأبرز وجوه المشهد الثقافي الجزائري، مشاركة شاعر الثورة التحريرية في برنامج "صوت الجزائر" من إذاعة تونس، من خلال الحملة التوضيحية حيال سياسة تمويه يمارسها ديغول على الشعب الجزائري قبيل الاستقلال، وهذا بعدة نداءات وجهها مفدي بصوته وباللغة الشعبية السائدة في مزاب، محذرا حينا، ومنبها أحيانا أخرى، فنجح "صوت الجزائر" وخاب الاستعمار. في سنة 1961، انتدبته جبهة التحرير الوطني ليمثل الجزائر في مهرجان الشعر العربي المنعقد بدمشق، فاغتنم مفدي الفرصة لطبع ديوانه الأول "اللهب المقدس" ببيروت، وقام بنشاط إعلامي مكثف لتعريف الإخوة في المشرق العربي بمعجزات الثورة الجزائرية. وهكذا زار في هذه الفترة القاهرة، دمشق، بيروت، العراق، السعودية، الأردن، وإمارات الخليج العربي، الكويت، قطر، فسجل فيها أحاديث صحفية ومقابلات إذاعية وتلفزيونية، وأمسيات شعرية، ودامت رحلته تلك أكثر من أربعة أشهر، حقق فيها نجاحا إعلاميا رائعا مما جعل جريدة "الصباح" التونسية تعلق على هذه الرحلة بقولها: "مفدي سفير الجزائر بدون أوراق اعتماد"، وهكذا لا تخلو أعمدة الصحافة سواء في دمشق وفي القاهرة أو في لبنان من شيء عن مفدي زكرياء والجزائر، فأصبح بذلك سفيرا بدون أوراق اعتماد، يخدم قضية بلاده ويبصر إخواننا في المشرق بما لا يعلمون عن الثورة الجزائرية وعروبة الجزائر. كانت آخر محطة في حياته بتونس، حيث أدركه الموت يوم 03 رمضان 1397ه / 17 أوت 1977، وشيع جثمانه هناك قبل أن ينقل من طرف أهله ليدفن بمسقط رأسه في بني يزقن. بعد ثلاثة أيام من وفاة الوطني مفدي، نقلت لنا اليومية الفرنسية "لوموند" في يوم 20 /08 /1977 الخبر؛ في حين كانت الصحافة الجزائرية تلتزم صمتا عنيدا، باستثناء جريدة "الجمهورية" الصادرة بوهران، التي خصصت له مربعا صغيرا. فإلى جانب دواوينه الشعرية وكتبه النثرية المتنوعة، ألف مفدي زكريا كتابا ذي صلة بالإعلام بعنوان "تاريخ الصحافة العربية في الجزائر".