يشهد الرفض الشعبي وحتى الرسمي للوجود الفرنسي في عدة دول إفريقية وتيرة متصاعدة انطلقت شراراتها الأولى من دولة مالي، التي وضعت النقاط على الحروف في علاقاتها مع باريس، قبل أن تنتقل عدواه إلى بلدان أخرى من مستعمرات فرنسا السابقة ليس فقط في منطقة الساحل بل في وسط وغرب إفريقيا. فبعد أن فقدت فرنسا نفوذها في دولة مالي وسحبت مكرهة قواتها منها ومن إفريقيا الوسطى، تشهد بوركينافاسو مؤشرات قوية لالتحاقها بركب الدول الإفريقية الراغبة في الانعتاق من طوق السيطرة الفرنسية. ويعيش هذا البلد منذ انقلاب سبتمبر الماضي، الذي أوصل القائد العسكري إبراهيم طراوري، إلى سدة الحكم في واغادوغو، على وقع خروج مظاهرات رافضة للتواجد العسكري الفرنسي. وصعد الرافضون لهذا التواجد خلال مظاهرة نظموها أول أمس، مطالبهم بالدعوة إلى رحيل السفير الفرنسي في بوركينافاسو، لوس هلاد، في مطلب يؤكد درجة الرفض الشعبي في المستعمرات الإفريقية السابقة لفرنسا. وبمجرد معرفة أن هؤلاء المتظاهرين من أنصار الرئيس الانتقالي، إبراهيم طراوري، يتضح المسار الذي اختارته واغادوغو تحت قيادة عسكرية تسير على نفس خطى نظيرتها الحاكمة في باماكو، والتي ما فتئت تؤكد في كل موقف سيادة مالي على أرضه وتحرره من ارتباط فرنسي دام لعقود دون أن يكون له أي أثر ايجابي على شعوب المنطقة التواقة للازدهار والتطور والتقدم. وعلى نقيض ذلك تماما، فواقع الحال في ظل تصاعد موجة العنف وتضاعف الهجمات الإرهابية، ولّد حالة من انعدام الأمن واللا استقرار التي تضاف إلى انعدام التنمية والفقر، يؤكد أن باريس استغلت تواجدها العسكري في الساحل تحت غطاء مكافحة الإرهاب خدمة لمصالحها والاستفادة من خيرات وثروات منطقة تعتبر حلقة ربط بين شمال وغرب وجنوب القارة السمراء. وهو ما يفسر المخاوف الفرنسية المتصاعدة من فقدان باريس لنفوذها في دول غرب إفريقيا المعروف عنها غناها بالنّفط والتي تشهد بدورها رفضا داخليا لاستمرار التواجد الفرنسي وخاصة العسكري على أراضيها. ويرى محللون أن التراجع الفرنسي يتزامن مع تنامي أدوار قوى أخرى في القارة السمراء كروسيا والصين وتركيا والولاياتالمتحدة، هذه الأخيرة التي حتى وإن استفاقت متأخرة بخصوص اهتمامها بإفريقيا إلا أنها تريد استدراك ما فاتها عبر السعي لاستقطاب دول القارة عبر الإعلان عن تخصيص مبالغ مالية هامة للاستثمار في إفريقيا. فبعد القمة الأمريكية الإفريقية الثانية التي احتضنتها واشنطن شهر ديسمبر الماضي، ونظر إليها مراقبون على أنها مبادرة أمريكية لإحداث توازن مع الدورين الصيني والروسي المتنامي في القارة الإفريقية، تأتي زيارة وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلان، أول أمس إلى العاصمة السينغالية، للترويج للثمار التي ستجنيها إفريقيا من علاقة اقتصادية جديدة مع الولاياتالمتحدة تقوم على قاعدة "رابح رابح". وسعت المسؤولة الأمريكية لطمأنه الدول الإفريقية بأن الولاياتالمتحدة، تقف وراء إفريقيا بشكل كامل وهي مع افريقيا التي شهدت خلال فترة حكم الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، إهمالا متعمدا وتحجيما لدورها وأهميتها. ويعمل خليفته الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، على تصحيح خطأ سابقه من خلال تعهده بزيارة منطقة الساحل خلال العام الجاري وأيضا بالإعلان عن زيارات لمسؤولين سامين على غرار نائبته كاميلا هاريس. وهو ما يزيد بالتأكيد من تعقيد مهمة باريس باسترجاع مجدها الضائع في افريقيا بعد أن تراجع دورها لصالح الصين وروسيا وتواجه اليوم اهتماما أمريكيا متصاعدا تشير المعطيات بأن واشنطن تريد توطيد علاقاتها مع القارة السمراء ليس على المستوى القصير أو المتوسط وإنما على المدى الطويل.