عادت القارّة الأفريقية لتكتسي بعدا إستراتيجيا هاما مع دخول قوى كبرى مضمار المنافسة لأجل حجز مواقعها بما يخدم مصالحها ويعزّز نفوذها، حيث نشهد في الفترة الأخيرة سباقا دبلوماسيا محموما ترجمته زيارات وجولات مسؤولين من دول كبرى، أدركت أن أفريقيا هي الملاذ الآمن لاستثماراتها والحلّ الأمثل للكثير من تداعيات الأزمات المعقّدة التي يمرّ بها العالم، بما تتوفّر عليه من موارد أولية وأسواق واعدة، وحتى أصوات دولها أضحت ذات أهمية كبرى في الأمم المتحدة وتحقّق الفارق في العديد من القضايا. بعد الدمار الشامل الذي ألحقته الجائحة بالاقتصاد العالمي، ثم نشوب الحرب الأوكرانية التي وضعت العالم على حافة المجاعة، أصبح الجميع ينظر إلى إفريقيا بعين الأمل، ويعتقد بأنّ ثرواتها والدينامية المتزايدة التي تتمتع بها اقتصادياتها سيكون السبيل لمواجهة نقص الطاقة وشحّ الغذاء الذي باتت الدول الغربية المقتدرة تئنّ تحت وطأته. من هنا ندرك أبعاد وخبايا زيارة كلّ من وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، والرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون مؤخرا إلى عدد من الدول الإفريقية، واعتزام وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، القيام بجولة إلى جنوب أفريقيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا. لقد أضحت القارّة السمراء محطّ اهتمام القوى الكبرى في العالم بالنظر إلى ما تكتنزه من ثروات لا تنضب، وأيضا لتحوّلها إلى رقم صعب في الشأن الدولي، حيث أصبح صوتها يحدث الفارق في القضايا الدولية كما سبق وشهدناه أثناء تصويت مجلس الأمن الدولي على قرار يدين العملية العسكرية في أوكرانيا، إذ امتنعت 17 دولة إفريقية عن التصويت، بينما اختارت نحو 9 دول التغيب عن الجلسة والنأي بالنفس، ودولة واحدة صوتت ضد القرار (إريتريا) من إجمالي 54 دولة إفريقية. على هذا الأساس، أطلقت القوى العالميّة سباقا لمدّ جسورها مع الدول الإفريقية، ووراء هذه الخطوة تقف الكثير من الدوافع التي تتقدّمها بالطّبع المصالح الاقتصادية والسياسية، والبحث عن مناطق نفوذ جديدة، أو الإمساك بالمناطق الموجودة في قبضة اليد منذ العهد الاستعماري، وسعي هذه الدولة لمحاصرة تقدّم الدولة الأخرى حتى لا تستأثر بخيرات القارة، وكأنّ إفريقيا تحوّلت إلى ملك مشاع لمن يصل الأول في سباق التغلغل والنفوذ. هدف واحد واستراتيجيات مختلفة الخطوة الأولى باتجاه إفريقيا، قام بها عميد الدبلوماسية الروسية سيرغي لافروف الذي زار نهاية الشهر الماضي مصر ثم الكونغو ورواندا وأنهى جولته في أديس أبابا عاصمة إثيوبيا، رافعا شعار «روسيا صديقة الشعوب الأفريقية». وبالموازاة قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأول جولة إفريقية بعد إعادة انتخابه لولاية رئاسية ثانية قادته إلى الكاميرون وغينيا بيساو، اللتين اختارتا التغيب عن جلسة التصويت على إدانة قرار «العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا»، وبنين التي انحازت للموقف الفرنسي بالكامل، رغم أنها تستورد 100 بالمائة من القمح من روسيا. وقد كانت أزمة الغذاء العالمية التي تلقي بتأثيراتها الكارثية على إفريقيا في قلب معركة التصريحات التي خاضها الرجلان خلال جولتيهما لحشد أكبر قدر من الحلفاء الأفارقة ، ففي حين لم يتردد ماكرون في اتهام موسكو، من الكاميرون، بأنها تستخدم الغذاء كسلاح حرب، شدّد لافروف، من أوغندا، على أن روسيا «لم تكن المسؤولة عن أزمة الطاقة والغذاء «بل المسؤولية كلها تقع على العقوبات الغربية». وقد احتاط ماكرون للمواجهة وحمل في جعبته مبادرة للأفارقة لمقاومة ما اعتبرها إغراءات القمح الروسي، تتمثل - كما قال - «في مساعدة القطاع الزراعي الإفريقي، وإقامة شراكة مفيدة مع أوروبا، وتمكين المناطق الإفريقية من السيادة الغذائية». من جهتها، لم تفوّت موسكو الفرصة ولعبت على نفس الوتر الحساس، أي الغذاء، وانطلقت من الخسائر التي تتكبدها الاقتصاديات الإفريقية لتعرض تعاونها ومساعدتها، وهو الأمر الذي يشكّل هاجسا للقوى الغربية خاصة الدول الاستعمارية السابقة التي ترى بأن روسيا جاءت لتزاحمها في مناطق نفوذها، خاصة وهي تملك قدرات تصديرية هامة من النفط والغاز والحبوب وتستطيع استقطاب الدول الإفريقية في أي معركة دبلوماسية قادمة مثلما يحصل مع الأزمة الأوكرانية. كما يثير التعاون الروسي المتزايد مع البلدان الإفريقية بما فيه العسكري، نقمة الغرب، حيث تعتقد جل القوى الكبرى بأن موسكو ماضية في سحب البساط منها، كما يحصل في الساحل الإفريقي مع فرنسا، إذ فقدت باريس مواقعها في مالي وبات الشعور المعادي لها والرافض لوجودها العسكري يتعاظم في دول أخرى مثل بوركينافاسو وتشاد والنيجر. التّغلغل من البوّابة الأمنية مقابل التقدم الذي تحرزه روسيا في إفريقيا انطلاقا من سياستها الناعمة هناك، وحرصها على إقامة علاقات متكافئة مبنية على مبدأ «رابح – رابح»، أصبحت فرنسا التي يلاحقها ماضيها الاستعماري القبيح، تبحث عن إستراتيجية جديدة للحفاظ على ما تبقى من مصالح ولتثبيت وجودها في القارة السمراء، وعدم خسارة دول أخرى بعد أن ضيّعت نفوذها في مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى، والدور قادم على بوركينا فاسو، التي تشهد هذه الأيام احتجاجات عارمة للمطالبة برحيل المستعمر الجديد القديم، وفي هذا الإطار جاءت جولة ماكرون الأخيرة، التي حاول من خلالها ترسيخ الانتشار العسكري الفرنسي بمبرر مكافحة الإرهاب حتى لا يترك المجال مفتوحا لتغلغل دول أخرى مثل روسيا، عارضا سياسة الجزرة المتمثلة في الاستثمارات والاعتراف بالذنب بشأن الاستعمار وجرائمه الفظيعة، فللمرّة الأولى، عرض الرئيس الفرنسي موضوعا جديدا وهو اعتراف فرنسا بفتح أرشيف ما أسماها «اللحظات المؤلمة»، في إشارة الى ما يسميها الأفارقة بشكل واضح «جرائم الاستعمار الفرنسي» في القارة السمراء. ولا تخفي باريس قلقها من المنافسة الروسية وحتى الصينية، وتتهم منافسيها بتوظيف نقطة ضعفها الأساسية «ماضيها الاستعماري في القارة السمراء «لضرب مصداقيتها والحلول محلها. لكن رغم المصاعب التي باتت تواجهها في مستعمراتها السابقة، فإنّ فرنسا لا تبدو بأنّها ستستسلم لقدرها لترحل وتترك الملعب شاغرا للاعبين الجدد، بل على العكس تماما فهي إن أرغمت على الخروج من الباب، ستعود من النافذة نحت عناوين كثيرة لعلّ أهمّها التعاون العسكري لمواجهة الإرهاب. بلنكين يلحق بالسّباق لأنّ السّباق لا يكون له طعم دون مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية، فقد برمجت واشنطن إنزالا دبلوماسيا في اتّجاه القارة السمراء يشمل زيارة وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى جنوب أفريقيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا. كما ستزور أيضًا سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، لاحقا كلّ من غانا ورواندا، فيما زارت مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية سامانثا باور مؤخرًا كينيا، الحليفة القديمة للولايات المتحدة، بالإضافة إلى الصومال حيث أشارت إلى زيادة سوء التغذية هناك. وأشارت الخارجية الأمريكية إلى أنّ بلينكن سيشدّد خلال جولته إلى القارة السمراء على أن «الدول الأفريقية شريك أساسي في أكثر القضايا إلحاحًا في عصرنا، من تعزيز نظام دولي مفتوح ومستقرّ، إلى التطرق إلى تداعيات التغيّر المناخي وانعدام الأمن الغذائي والأوبئة العالمية، وتشكيل مستقبلنا التكنولوجي والاقتصادي». قارة تتقدّم لا شكّ أنّ التنافس المحموم على إفريقيا يعكس الكثير من المعطيات، أهمّها نظرة القوى الكبرى للقارة السمراء على أنها مخزن للثروات الطبيعية والموارد الأولية والأسواق الواعدة، وهذه النظرة ظلّت على الدوام تسكن الدول الغربية الاستعمارية التي تنهج مند عشرات السنين ذات الإستراتيجية أحادية المنفعة مع البلدان الإفريقية، والتي تقوم على احتكار مقدّرات القارة واستغلالها لتحقيق رفاهية شعوبها، بينما لا يستفيد المواطن الإفريقي من شيء، بل ويمنع من أي فرصة للتنمية حتى يبقى دائما تابعا لمن يستغلونه أبشع استغلال. وبالإضافة إلى التكالب المدفوع بالإصرار على احتكار ثروات القارة، برز في الفترة الأخيرة، خاصة بعد الجائحة والحرب الأوكرانية، دافع جديد يسوق القوى الكبرى نحو القارة السمراء، وهو الاستفادة من أصوات دولها في الأمم المتحدة، فالمعارك الدبلوماسية التي تخوضها هذه القوى، خاصة على مستوى مجلس الأمن الدولي، أصبح يحسمها الصوت الإفريقي الذي بات رقما صعبا في معادلة التوازن الدولي. لكن ما يجب الإشارة إليه في الختام، أن إفريقيا اليوم لم تعد كالأمس، حيث أصبحت تدرك أطماع القوى الغربية وترفض الرضوخ لسياساتها الاستغلالية، كما أن شعوب القارة بلغت درجة من النضج والشجاعة جعلتها لا تتردّد في الخروج إلى الشوارع والاحتجاج ضدّ المستعمر القديم الجديد كما يحصل لفرنسا في الساحل، باختصار شديد لم يعد بمقدور القوى الكبرى أن تستغل البلدان الإفريقية التي أصبحت تتمسّك باحتلال موقع الشريك الاستراتيجي، وتبحث عن التعاون والتكامل الذي يستفيد منه الجميع. إفريقيا..خزّان استراتيجي للموارد الطّبيعية كما تؤكّده الأرقام والإحصائيات التي تنشرها المعاهد المتخصصة، فإنّ القارة الأفريقية تعدّ ثاني أكبر قارات العالم بعد آسيا، وتبلغ مساحتها حوالي 30 مليون كلم2 تشكّل ما نسبته قرابة ال 20 % من مساحة اليابسة في الكرة الأرضية. تضم أفريقيا حوالي 800 مليون نسمة تمثل قرابة 15 % من مجمل سكّان الكرة الأرضية، وهي تتمتّع بثروات طبيعية وموارد ضخمة غير مستثمرة بالشكل المثالي في معظمها. وتكتسب القارّة الإفريقية أهمّيتها من كونها تشكّل خزّان العالم الاستراتيجي من الموارد الطبيعية والمواد الأوليّة والأحجار النفسية. وهي تضم حوالي 10 % من احتياطي النفط العالمي المثبت ويتركّز معظمه (بنسبة 60 %) في ثلاث دول رئيسية منتجة هي نيجيريا والجزائر وليبيا، في حين تبلغ احتياطيات الغاز المثبتة في القارة حوالي 8 % من نسبة الاحتياطيات العالمية، ويتوزّع أكثر من 75 % من هذه النسبة في ثلاث دول أيضا هي نيجيريا والجزائر ومصر. ومن مميزات النفط والغاز الأفريقي سهولة استخراجه نسبيا وسهولة تسويقه أيضا بسبب موقع القارة الاستراتيجي بين قارات العالم من جهة، وبسبب تركّز كميات كبيرة من النفط على السواحل أو في المياه الإقليمية لدولها. وعلى الرغم من أنّ نسبة الاحتياطيات المثبتة في القارة متواضعة نسبيا مقارنة بنظيرتها في الشرق الأوسط، إلاّ أنّ عددا من الجهات الدولية تشير إلى أنّ هناك العديد من المناطق غير المكتشفة إلى الآن، والتي يمكن أن تحوي كميات كبيرة من النفط والغاز بشكل يجعل من القارة الملجأ الأخير غير المستنفذ بعد نفطيا، خاصّة أن قدرات الإنتاج في العديد من دول القارة لم تصل إلى طاقتها القصوى. وبخصوص الموارد الطبيعية والأوّلية، تعتبر أفريقيا «منجما ضخما» ينتج حوالي 80 % من بلاتين العالم، وأكثر من 40 % من ألماس العالم و20 % من ذهبها وكذلك الأمر من الكوبالت. أما المياه، فتشير التقديرات إلى أنّ القارّة تمتلك حوالي 4 آلاف كلم3 من مصادر المياه العذبة المتجدّدة في السنة، أي ما يوازي حوالي 10 % من مصادر المياه العذبة المتجددة في العالم، وهي نسبة معتبرة قياسا بالمعاناة التي تعيشها الدول الأخرى في كثير من مناطق العالم.