بحياء مجاهد لبى النداء، وبتحفظ رجل مخلص يحب وطنه تعرض لأبشع أصناف التعذيب من طرف المحتل الفرنسي، قام يوسف بوشوشي، المخرج والمنتج السينمائي والتلفزيوني القدير صاحب حصة "روائع الفن السابع" وأفلام كثيرة نذكر منها "الهجرة"، "سليم وسليمة" و"ثمن الحرية" بعرض شهادته أمام "المساء"، فتحدث عن نضاله من أجل حرية الجزائر وكذا عمله في التلفزيون قبل وبعد الاستقلال، علاوة على رؤيته لجزائر اليوم بعد مرور خمسة وخمسين عاما منذ اندلاع الثورة المظفرة، فكانت هذه الشهادة التحقت بالثورة وعمري 16 سنة التحقت بجبهة التحرير الوطني سنة 1956 وعمري لا يتجاوز 16سنة، انضممت قبلها إلى صفوف الكشافة الجزائرية، حيث تعلمت حب الوطن وروح الوطنية، وبعد الكشافة التحقت بالضبط بمنظمة تابعة للجبهة بالعاصمة، وكانت مهمتي نقل القنابل رفقة العديد من المكافحين أمثال جميلة بوباشة، وهذا من حي مارنقو من محل بيع الأواني إلى ضواحي حي العربي بن مهيدي في محل بيع الدجاج، وكانت هذه العمليات تتم وفق تنظيم وتخطيط محكم جدا رغم عمليات التفتيش التي كانت تقوم بها قوات الاحتلال.
التحاقي بالثورة كان فطريا لم أتردد في الالتحاق بصفوف من رفعوا راية الوطن عاليا ولو على حساب حياتهم، فأنا من عائلة ثورية مائة بالمائة، حيث كان إخوتي وأعمامي وأبناء أعمامي رجال ثورة وإن اختلفت مهامهم، حتى أن هناك حيا في الأبيار يحمل اسم هذه العائلة الثورية "بوشوشي"، هذه العائلة التي عرفت سقوط شهداء وأذكر من بينهم أخي الذي عذب كثيرا وبعدها أخذ على متن طائرة وألقي به منها، وآخر حكم عليه بالإعدام وأخ آخر استشهد مع الكومندان بوقرة في الحادثة التي راح ضحيتها ثمانية عشر مجاهدا". إذاً انخراطي في الجبهة كان أمرا فطريا، خاصة أننا كنا نحن أفراد العائلة متقاربين في السن، ويسعني هنا أن أذكر أبي الذي كان يأتي لي بقفة طعام عندما كنت في سجن سركاجي، ويحضر معه أيضا قففا أخرى لمساجين آخرين، صحيح أننا لم نكن أغنياء، ولكن كان هناك تساند عظيم بين أبناء الشعب الواحد الذي يصبو إلى هدف واحد، ألا وهو الاستقلال. فكان كلما اعتقل أو استشهد رب عائلة، تتلقى عائلته مساعدات من الجيران، علاوة على مساندة جبهة التحرير طبعا، فكانت هناك روح التضامن والتساند التي خفت كثيرا هذه الأيام، بتغير الكثير من الأشياء.
حكاتي مع التعذيب بدأت مع معركة الجزائر في 16 أوت من سنة 1957 وبالضبط أثناء اندلاع معركة الجزائر، قبضت علي سلطات الاحتلال التي جاءت تبحث عني في منزل العائلة وأخذتني إلى حسين داي في مدرسة ليفيي التي تحولت في شهر أوت (شهر العطلة) إلى مركز للتعذيب، وكان هذا تحت سطوة القبعات الحمر. ومن ثم أخذت إلى مزرعة تقع قبالة مستشفى بطرارية حوّلت هي الأخرى إلى مركز للتعذيب، وبعدها إلى بن عكنون حيث يوجد أيضا مقر للتعذيب بالقرب من ثانوية عمارة رشيد، ومن ثم أخذت إلى سجن سركاجي ومكثت عاما هناك، بتهمة المساس بالأمن الداخلي والخارجي للدولة الفرنسية، وحكم علي بمحكمة القصر بما أنني لم أكن قد وصلت إلى السن القانونية، بأن أسلّم إلى العائلة تحت ضمانة والدي. حكايتي مع السجن والتعذيب لم تنته عند هذا الحد، والمرة الثانية كانت سنة 1960 إذ قبض علي الاحتلال ووجدت نفسي في الثكنة العسكرية بحسين داي في مركز تعذيب آخر، وهذا لأن المنظمة التي كنت أناضل معها هي من مدينة حسين داي، وأطلق سراحي بعد خمسة عشر يوما، أما المرة الثالثة فكانت سنة 1961 وهذا في فيلا سيزوني، ومكثت ثمانية أيام وكان هذا قبل الإعلان عن تاريخ وقف إطلاق النار. وهنا أتوقف لأذكر كيف نجوت أنا ومناضلا ثانيا من رصاص المستعمر من ضمن خمسة مناضلين، حيث عندما أطلق سراحنا من مركز التعذيب بحسين داي، لحقت بنا سيارات المحتل وتيقنا أنها تريد هلاكنا فافترقنا، ولكن العدو كان مصمما على قتلنا فبدأ بملاحقة اثنين منا اتخذا الطريق العلوي ملاذا لهما، ولكنهما استشهدا تحت الرصاص، بعدها عادت هذه السيارات نحونا نحن الثلاثة وكانت النتيجة استشهاد مناضل آخر ونجاتي مع الرفيق الأخير الذي تعرض إلى سبعة رصاصات ومع ذلك بقي حيا إلى اللحظة.
أبي القاضي مناصر اللغة العربية أريد أن أتوقف عند أبي الذي كان قاضيا في عهد الاستعمار يهتم بأحوال المسلمين من زواج وطلاق وعقد وغيرها، وبعد الاستقلال تحول إلى قاض لمحكمة الحراش، ثم مستشارا في وزارة العدل، كان أبي مولعا باللغة العربية، فكان يفتح قسما لتعليم اللغة العربية بالطريقة التقليدية (اللوحة) في كل جامع للمنطقة التي يرسل إليها لأداء مهامه في عهد الاستعمار، وخاصة في منطقة القبائل، حتى أنه حوّل مرآب منزل العائلة إلى قسم لتعليم اللغة العربية لأبناء الحي، وأحضر معلما لتحقيق هذا الغرض، هذا المعلم استشهد فيما بعد. التحاقي بالتلفزة كان في عهد الاستعمار التحقت بالتلفزة سنة 1961 كمساعد مصور، فقد كنت مولعا بالتصوير، حتى أن أبي اشترى لي آلة كاميرا تسعة ملم، وكانت آنذاك آلة قيّمة، قلت إنني أصبحت أعمل في التلفزة وفي نفس الوقت في الجهاد، ولم يكن هذا الأمر متعلقا بي فقط، بل كان هناك أحد عشر جزائريا عاملا بالتلفزة، وفي نفس الوقت منخرطون في لجنة تابعة للجبهة كانت تضم إسماعيل مدني، برقوق، مصطفى بديع وآخرين تم القبض عليهم في مقر عملهم بالتلفزة، والتقيت بهم في سجن سركاجي. حقيقة تمكنت من العمل في التلفزيون بعد محاولة الاستعمار دحض اتهامات العنصرية من خلال فتح باب ضيّق للجزائريين في التلفزيون، حتى أنه تم من خلال برنامج "عرض لاكوست" إرسال سبعة جزائريين إلى معهد السينما بفرنسا لتعلم أبجديات الفن السابع، وقبل ذلك صعد الجزائريون الذين كانوا يعملون في التلفزة إلى الجبل واستشهدوا مثل المخرج جناوي والوحيد الذي عاد بعد سنة 1962 كان المخرج يوسف صحراوي. واصلت عملي بالتلفزة بعد الاستقلال حكايتي مع السينما لم تتوقف بعد الاستقلال، بالعكس فقد صورت مظاهر الفرحة بالاستقلال 24 ساعة على 24، وكنت أيضا مصور الجبهة، وصورت اقتلاع الجبهة للتماثيل ليلا مثل التمثال الذي كان في حي العربي بن مهيدي، والذي يضم الآن تمثال الأمير عبد القادر، وكنت أعطي الجبهة الأفلام التي أصورها". أذكر ذلك اليوم الذي جاء فيه مبعوث الجبهة وهو لغواطي إلى التلفزة وسألني عن إمكانية تشغيل التلفزة من طرف جزائريين فقط، فأجبته بنعم رغم أننا كنا عشرة أشخاص فقط نعمل في التلفزيون، ومن بينهم يوسف ماحي وقريبي ومصطفى بديع، وإثر ذلك حوّط المجاهدون مقر التلفزة وكانوا يفتشون ملابس كل فرنسي يخرج منها، أما عنا نحن فقد كنا نبيت في مقر عملنا، وأنجزنا برامج مختلفة حتى المسرحيات على المباشر، وكان ذلك بوسائل وتقنيات بسيطة. عملت بالأخبار وبالسينما وأعددت حصة "روائع الفن السابع" سنة 1969 على المباشر، وكان هذا أيضا بوسائل بسيطة تطورت تدريجيا مع مرور الوقت، وفي البداية تعاملت مع رشيد بومدين والذي كان يعمل في الإذاعة وأصبح فيما بعد مدير الإذاعة الثالثة، فعمل مقدما للبرنامج، ولكنه لم يستمر لأنه لم تكن لديه ميول ومعرفة في عالم الفن السابع، بعدها تعاملت مع مليكة طويلي التي درست في معهد السينما بفرنسا، ولكنها لم تتحمل تبعات الشهرة التي جنتها من تقديمها لهذه الحصة مثل الكم الكبير من الرجال الذين كانوا ينتظرونها أسفل بيت العائلة عندما تعود من عملها، أي بعد البث المباشر للبرنامج، أيضا توافد عدد كبير من العائلات لخطبتها لنفس السبب، فقررت التوقف عن العمل، بعدها اخترت أحمد بجاوي وهو ناقد متميز في السينما ومع ظهور قانون التعريب، اعتمدت أيضا على صحفي من جريدة "الشعب"، ولكنه لم يستمر طويلا وعاد بجاوي لتقديم "روائع الفن السابع" لوحده وببراعة.
نستطيع أن نكون أفضل بكثير ماذا أقول عن الجزائر بعد مرور خمسة وخمسين عاما من اندلاع ثورتها المظفرة، لن أقول إنني غير راض على وضع الجزائر اليوم، فقد كنا في عهد الاستعمار لا نستطيع حتى أن نمشي على طريق معبد والذي كان يسمى "طريق الرومي" وها نحن اليوم نسير في بلدنا بحرية وأبناؤنا يدرسون بمجانية، في حين كانت الجزائر برمتها تضم مائة طالب ثانوي فقط غداة الاستقلال. ولكن كنا نستطيع أن نكون مائة مرة أفضل من وضعنا الحالي، أتحسر على الآفات التي أصبحت تنخر بلدي كالبيروقراطية والانتهازية لدى البعض وكذا قضية المجاهدين المزيفين ومن يعرقل مسار الجزائر للوصول إلى مصف أفضل، ومع ذلك أقول الحمد لله فأنا حي ارزق وسط أطفالي وأحفادي.
الفن السابع أداة لتسليط الضوء عن الثورة الجزائرية تعود الذكرى بي إلى يوم اندلاع الثورة المجيدة، فقد كنت حينها في قصر الشلالة والتجأت إلى مقر الكشافة مع آخرين، وغنينا أغاني وطنية مثل "جزائرنا"، نعم لم يمنعنا أي شيء عن أداء واجبنا، أجل، أي شيء حتى التعذيب الذي تناولته في فيلم "ثمن الحرية" والذي تطرقت إليه بطريقة محتشمة مقارنة بما كان عليه في الحقيقة، فقد دفع الجزائريون الكثير لاستقلال هذا البلد ولم يقتصر الأمر فقط بعد انطلاق الثورة، بل قبلها بكثير، وفي الكثير أيضا من مناطق البلد. بالمقابل وعلى ذكر فيلم "ثمن الحرية" الذي تطرقت فيه إلى مقاومة الجزائريين منذ سنة 1830 إلى غاية سنة 1962 أي منذ البداية إلى نهاية الاحتلال الفرنسي، أنتظر دائما دعم الوزارة الثقافية في قضية ديون الفيلم التي وصلت إلى 700 مليون سنيتم، فهذا الفيلم موجه إلى المواطن الجزائري، لكي يدرك أكثر كل العذاب الذي عاشه رجال ونساء لكي يستقل هذا البلد. وفي هذا السياق أتوجه إلى كل شخص يتمنى أن تعود فرنسا إلى احتلال الجزائر، إنه غير عاقل ومخطئ كثيرا في قوله هذا، وهذا دليل على جهله التام بما عاناه الجزائريون في عهد الاستعمار وأضيف "هذا دليل أنك لم تعش تلك الفترة، فلو عشتها لما قلت ما قلت أبدا".