بدعوة من مؤسسة البابطين للإبداع الشعري ذهبت إلى القاهرة عشية احتفال الجزائر بعيد ثورة نوفمبر وأنا أشعر بنوع من التوجس لسببين، أولهما عتاب سمعته من السفير المصري في الجزائر يتعلق بكتاباتي خلال أحداث غزة، والتي رآها إساءة لمصر. ولا مجال لأستعرض بالتفصيل ردّي على السفير الذي تلخص في أنني أكتب ما أريد كتابته على ضوء ما أراه وما أحس به، وهو ما لم يقنع السفير حيث لم أدع للاحتفال الذي أقامته السفارة بمناسبة ذكرى حرب أكتوبر المجيدة. وكان السبب الثاني هو ما تناهى إلى سمعي وإلى بصري من حملة إعلامية شرسة يقوم بها الإعلام المصري ضد كل ما هو جزائري، انطلقت بتعبيرات سخيفة من مذيع تلفيزيوني مصري تفوح منه رائحة البترودولار، وتلتها أكاذيب آخر قدم صورة لنعش عليه علم مصري علق عليها قائلا بأن هذا هو تعامل الصحافة الجزائرية مع مصر. ورغم أنني لست من عشاق كرة القدم فقد رأيت في الأمر قضية ثقافية ذات عمق وطني وبعد مستقبلي لا يمكن تجاهلها، وهكذا رحت أسجل آرائي في موقعي على "الفيس بوك" والذي أصبحت أتعامل معه بكثافة منذ نحو سنتين انقطعت فيها عن الكتابة بشكل منتظم في الصحافة اليومية، وباستثناء مقال نشرتهُ مجلة "وجهات نظر" الشهرية، والموجهة أساسا إلى نخبة النخبة. وكان محور ما قلته أن من حق أي شعب، بل ومن واجبه، أن يدعم فريقه الوطني في أي منافسة كانت، لكن عليه أن يأخذ بعين الاعتبار أهمية ألا يتحول الحماس إلى تعصب، حيث أن الكرة معروفة بنزواتها، وبالتالي فيجب أن نتخيل ما يمكن أن يقوم به جمهور متشنج إذا حدث وهزم فريقه في الميدان. وقلت بأن من حق أي شعب أن يكون في صفوفه عدد من الحمقى والموتورين، خصوصا في مرحلة سياسية يمكن أن تكون فيها اختراقات كثيرة قد تكون وراء بعض المبالغات المقصودة في الفعل وردود الفعل. وكان مما شجعني على السفر إلى القاهرة ردود فعل رائعة عبر "الفيس بوك" ومن خلال من أوردته الشبكة العنكبوتية من ردود فعل لجماهير ومثقفين مصريين، كان في طليعتها ما كتبه سفير مصر الأسبق في الجزائر والمحامي الوطني المتميز الأستاذ إبراهيم يسري، والذي كتب مقالا أعاد نشره في الفيس بوك، تحدث فيها عن العواطف العربية السامية للشعب الجزائري، ولا أورده هنا لكيلا يعتبر نفاقا مني لرئيس الجمهورية. ويكتب فوزي الصياد قائلا بكل نزاهة: أتمنى من أعماق قلبي مثل كل مشجع مصري أن يفوز المنتخب المصري ويصعد لكأس العالم ويمثل العرب ولكن لولا قدر الله لم يتأهل فسوف نكون كعرب موجودين في كأس العالم من خلال الجزائر، وسأكون أول المشجعين لها. ويكتب أيمن الجندي في المصري اليوم قائلا : حينما تنسون دماء جزائرية سالت على أرض القتال، أكثر من ثلاثة آلاف جندي وضابط، وألف دبابة وخمسين طائرة حديثة شاركت في معركة الكرامة عام ثلاثة وسبعين، حينما تنسون المصير المشترك والعدو المشترك والحزن المشترك، ثم تجرون وراء كرة قدم يتقاذفها لاعبون مترفون يركلون الكرة (ومعها قلوبكم)، ينتصرون أحيانا ويُهزمون غالبا، فأنتم يا سادة لا تعرفون مصر. ويكتب فوزي الرملاوي: مما لاشك فيه أن الصحافة المصرية قبل الجزائرية قد أججت نيران التعصب لمجرد مباراة في كرة القدم سيلعب بعدها الفائز التصفيات الأولى بكأس العالم ويعود إلى دياره دون تحصيل شيء . وأتساءل متى يا ترى سنرتفع فوق الصغائر ؟ ويكتب فاروق مادوني معلقا على ما كتبته (والنصوص كلها موجودة على موقعي في الفيس بوك) المصريون يقولوا الجزايريين يكرهونهم، والجزايريون يقولوا أن المصريين يكرهونهم. أليست هذه فتنة بين المسلمين يا دكتور. أنا أحب الكرة بجنون، ولكن الله يلعنها إذا كانت ستسبب فتنة. وتكتب الشاعرة المتميزة أميرة فكري: الكرة مكسب وخسارة، ساحرة مستديرة تذهب عقول الناس المتعصبين، ولكن في الآخر نحن أشقاء وعرب وإخوة ولا يجب أن يسيء للعلاقات أي فئة متعصبة أوحمقى كما تفضل ونعتهم دكتور عميمور. كالعادة نستمد الثقافة والعقل والحكمة من كلماتكم واختياراتكم، وتعجبني نبرتكم الهادئة ولغتكم الكثير عاقلة، ربنا يوفق الجميع وتكون مباراة نظيفة. وتكتب أمينة بل: لماذا كل هذا الصخب الإعلامي على مصر والجزائر بالتحديد؟ هل الجزائر ومصر هما البلدين الوحيدين الذين تواجها في كرة القدم وحصلت بعض التجاوزات اللفظية من الطرفين؟ وأين هي فلسطين من هذه الضجة؟ ومن هو عدونا الحقيقي، على من يجب أن نوفر كل هذا الغضب؟ ويكتب الصحفي التلفيزيوني ونجم النيل الثقافية حسن الشاذلي قائلا: سنرفع كلنا القبعة للفريق الفائز وقلتها في برنامجي أمس وكان ضيوفي أصدقائي الأعزاء من المسرح الوطني الجزائري على الهواء مباشرة. وتكتب عزة مختار: سيادة السفير اهتمامك ومجهودك لتهدئة الأجواء بين جمهور الفريقين أكثر من رائع ينم عن شخصية متحضرة واعية تحب الخير لكل الشعوب العربية أهلا ومرحبا بالإخوة الجزائريين في أم الدنيا. وتكتب عزة مختار: إعلام غبي يصطاد في الماء العكر. أليس من الأفضل أن يركز إعلام كل دولة على مستوى فريقه وفنياته بدلا من التجريح والهجوم على فريق البلد الآخر بل والبلد الآخر بشعبه وتاريخه وحضارته؟. إعلام مراهق. ويقول أبو عمر: لا أعلم أمثال "مصطفى عبده" أوهذا الأديب ماذا يفعلون...لمجرد فرقعة إعلامية أوجذب أكبر عدد من المشاهدين... يجرون شعبين إلى ما لا يحمد عقباه.... لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، شكرا دكتور عميمور على كل المجهود الذي تبذله... جزاك الله خيرا. ويكتب محمد الألفي: علموا أولادكم (الجزائريون) وقفوا وقفة الرجال معنا على أرض سيناء وأصروا على التواجد في المقدمة لنيل الشهادة أيام الراحل هوارى بومدين، الرجل الذي سخر كل ما تملكه الجزائر لحساب مصر في حرب 1973، وذهب إلى روسيا بطائرته المحملة بصناديق الأموال النقدية لشراء السلاح اللازم لمصر وقطع غيار الأسلحة. ألا نعلم أبناؤنا الكثير من مواقف الرجولة للرجال من أبناء مصر والجزائر، عوضا عن أن نعلمهم التخلف العقلي كما يحدث الآن؟. المسؤولية مسؤولية الجميع .. ولن نسمح لبعض المشجعين المتخلفين في البلدين بقيادة بلادنا إلى التخلف والفرقة. كان هذا هو الجو الذي ذهبت فيه إلى القاهرة عشية الاحتفال بذكرى الثورة التحريرية، وبعد أن أرسلت اعتذارا إلى رئاسة الجمهورية عن الغياب، وكان الاستقبال الذي أقامه عبد القادر حجار في أهم فنادق القاهرة فرصة تأكدت منها أنني لم أكن مبالغا عندما أطلقت على المتشنجين بأنهم مجموعة ضئيلة من الحمقى والموتورين. ورغم أن مدة أي استقبال ديبلوماسي هي ساعتان فقط، فإن حفل سفير الجزائر امتد من السابعة مساء إلى ما بعد الواحدة من صباح اليوم التالي، وازدحمت قاعة الفندق الكبرى بالحضور، وأصر كل الحضور على تأكيد تعاطفهم مع الثورة الجزائرية والشعب الجزائري، ورفضهم لكل تشنج أوتعصب يجعل من مباراة كروية "حرب داحس والغبراء"، واستعرضت مع كثيرين منهم الكتابات المشرفة في صحف جزائرية. وكانت كلمات رقيقة سمعتها من مناضلين مصريين مثل أحمد حمروش وعبد المجيد فريد ومحمد أبو الفتوح، وسعدت أيضا بلقاء عدد من الفنانات ومن بينهم مديحة يسري ونبيلة عبيد وعدد كبير من رجال الإعلام وفي مقدمتهم الأستاذ أحمد المسلماني. والتف مصورو التلفزة حول حجار ينتزعون منه التعليقات الصحفية، وهو وجدها فرصة ليترك بعض الأعباء لأخيكم، بعد أن أرهقته لقاءات متتالية مع المسؤولين المصريين، وهكذا كانت لي حوارات مطولة مع أكثر من صحفي وأكثر من فضائية، وكان أول من تلقف الفرصة العزيزة فاطمة بن حوحو التي استضافتني في اليوم التالي في قناة "الساعة" التي تشرف عليها، كما استضافني، ولمدة ساعتين، منشط "الطبعة الأولى" في دريم 2، وانقض علي في الفندق مجموعة من قناة "النيل" بتحريض من الشاعرة هند القاضي. وتفضلت الصديقة العزيزة الدكتورة نبيلة قلادة بتنظيم حفل استقبال في حديقة منزلها دعت له مجموعة من زملائي السابقين في كلية الطب، واعتذرت لي والدموع في عينيها أنها لا تملك علما جزائريا لترفعه بجانب العلم المصري في الحديقة، كما حظيت برعاية الشاعرة أميرة فكري والأستاذة منى صابر والمبدع محفوظ عبد الرحمن وحرمه ومايسترو الثقافة جابر عصفور وسكرتيرته نجلاء. وكان لا بد أن أسجل بعض هذا في الكلمة التي ألقيتها في اليوم التالي في احتفالية مؤسسة البابطين للإبداع الشعري بعيدها العشرين، وهكذا قلت في مقدمة الكلمة التي سأبعث بها للنشر كاملة لمن يريد: أبدأ هذه الكلمات بتسجيل تحيتي لأرض الكنانة، وأرجو أن ألاحظ أنه لا علاقة لهذه التحية من قريب أومن بعيد بمباراة الكرة القادمة بين الجزائر ومصر. وعدت إلى الجزائر لأفاجأ بتصرف مماثل لما كنت أندد به ويتناقض مع النزاهة الإعلامية، عندما لم تنشر إحدى الصحف سطورا كنت أرسلت بها إليها لأصحح مزاعم نشرتها في اليوم السابق عن موقف لي تجاه المرحوم البشير بو معزة.