عندما تجلس إلى الأديب الطاهر وطار، تجد نفسك تلامس كل الوقائع العربية من ثقافية وتاريخية وسياسية، تلامس قمم الهموم العربية بكل ما عليها من سحب وبكل ما فيها من مزالق، الطاهر وطار، هذا الذي يملأ فمه وقلمه بحرف لا، يمارس تمرده بكل حرية وواقعية، ولولا هذا التمرد ما طفت شخصية الطاهر وطار على واقع هذه الأمة، التقت به جريدة "المساء" وأجرت معه هذا الحوار عن "الجزائر عاصمة الثقافة العربية"، عن الرواية، عن واقع هذه الأمة بأبعادها وزواياها وانحناءاتها التي لم تستقم بعد لتسير مسارها الطبيعي ثقافيا· - تميزت سنة 2007 بأنها سنة الثقافة العربية بالجزائر، فهل فعلا كانت سنة للثقافة العربية، وهل استطاعت الجزائر ترجمة الواقع الثقافي العربي، أم اكتفت بالاحتفالية ثم انفضت "الزردة"؟! * الكلام عن الثقافة عموما يعني كلاما زائدا لا معنى له، لأن المجتمعات العربية المبدعة محكومة بسلطات معادية للثقافة، هذه السلطات إما أن تدجن الثقافة، وإما أن تدجن المثقف وإما أن تجعلهما في خدمتها، وهذه النظم تجعل الثقافة عبارة عن فلكلور مفرغ من التجديد، مفرغ من محتواه· أما فيما يخص السنة الثقافية بالجزائر، فلها شقان: شق أتى من الخارج من معظم البلدان العربية الشقيقة، وهو الشق الرسمي الذي يبرز في الفلكلور، الرقصات ،الطبول، بالإضافة إلى بعض الشعراء وبعض المحاضرين·· والشيء الإيجابي أن الجزائر توجهت إلى المشرق بعد أن كانت باستمرار متوجهة إلى الغرب، تذكرت أن هناك مصر، سورية، خاصة بعد التسعينيات، حيث كنا منعزلين ومعزولين وشبه مقاطعين، الشق هذا جاء من كل البلدان العربية التي جاءت بكل أدواتها وبكل رقصاتها· أما الشق الثاني فهو ما أنجزته الجزائر داخليا، حيث كان هناك تحفز أو حماسة لإنجاز عدد كبير من المسرحيات، ولأول مرة يتم إنجاز ما يقارب الخمسين مسرحية في سنة واحدة، وكذلك إنجاز الكتب، فتح بعض القاعات، إنجاز ما يزيد عن ألف عنوان، و حتى وإن غربلناها ووجدنا 30 % فقط مفيدة والباقي غث، فهذه 30/100 مهمة، فالمطابع تحركت وهذا إيجابي لا يمكن نكرانه، كذلك تشجيع صناعة الأفلام·· أنا ما همني في هذه التظاهرة لهذه السنة، توجه دفة السفينة الجزائرية نحو المشرق العربي بعد أن كدنا ننسى بأننا ننتمي إلى العالم العربي· - هل نجحت تجربة إصدار "ألف عنوان وعنوان" في إماطة اللثام عن وجه الكتاب والكتاب في بلادنا، أم أنها فسحت المجال للغاوين الجلوس لمائدة الكتابة وليس لهم من وسيلة إلا الملاعق؟ * هناك ثلاث حالات أيضا، الحالة الأولى، أن الناشرين استولوا على لجنة الكتاب وتفتحت شهيتهم، وكبروا كروشهم حتى أن مقياس التقييم الذي وضعوه "للفاتورات" هو مقياس عشر مرات، الكتاب الذي يمكن أن ينجز ب50 ألف دينار كلفوه ب300 ألف دج، بعض من الناشرين أنشأوا دور نشر جديدة لا وجود لها وراحوا يقدمون وثائق للمطبعة، وهذا شق مع الأسف الشديد غير حضاري، كان من المفترض أن لا يكون الناشرون في اللجان، بل أن يكونوا مستشارين يقدمون وجهات نظرهم في إمكانيات الطبع في الجزائر، في نوعية الورق، وأن توزع بالعدل بين الناشرين والطابعين، ويظهر أن الوزارة انتبهت إلى هذا الخلل وركزت على مطابع الدولة كمبطبعة الجيش، ومطبعة "إيناف"، اللجنة قسمت خبزة الحلوى على بعضها وعلى أحبابها، ولكن الوزارة أيضا تولت طبع الكثير من الأعمال، وأنا جاءتني أعمال مطبوعة من الوزارة مباشرة عن مطبعة الجيش، وهذا مهم، وهذه قضية تجربة، وثقة، المحافظة السامية التي تشكلت في الأول لم تكن صريحة وواضحة في هيكلتها وفي إشرافها حتى في اختيار هذا المحافظ السامي، لا أدري لماذا كان لمين بشيشي وليس غير لمين بشيشي ثم الإتيان ب"ديناسورات الأفلان"، فلان وفلان··· هذا كله يظهر أن هناك صراعا بين جهات مختلفة، هؤلاء الناس كلهم سبقوا أن سيروا ولم ينجحوا في التسيير، غريب أمر هذه البلاد، لكن الوزيرة لم تستسلم وأنا أحييها تحية حارة، ظلت يقظة، وظلت صامدة وواجهت مخاطر فلتات السنة، ولم تتركها تفلت، وأقول بارك الله فيها· الجزائر الآن وللأسف الشديد من يتقدم لمهمة يتقدم لينهب، كما لو أننا في عهد البحث عن الذهب في أمريكا الشمالية، سباق على معادن الذهب، ماذا يعرف كمال بوشامة عن صناعة الكتاب، عن الفلكلور والأدباء العرب، عن السينما العربية؟ وكذلك لمين بشيشي رغم أنه كان وزيرا للإعلام؟! إنما هذه مهمة تحتاج الى ناس مسيرين وليسوا مدبرين كما جرت العادة في المسؤول الجزائري· - الثقافة العربية هل وصل بها أصحابها إلى اقتراح مشروعها الحضاري، أم هم مجرد أرقام في المشاريع السياسية التي تنتج في الغرب وتطبق في عالمنا؟ * الثقافة العربية لا وجود لها، موجود فلكلور عربي وتقاليد ودين، ولكن الإبداع غير موجود في قطاعات الإبداع العلمي هذا في كل الأوجه، هناك تقاليد لصناعة الرواية، لصناعة شعر خارج عن أطر الشعر العربي، الأمة كلها مكبلة، فكيف لها أن تبدع؟، ربما 30% من المثقفين العرب يوجدون خارج العالم العربي، يوجدون في أوروبا، باحثون في جميع العلوم وفي مختلف البحوث، موجودون في بريطانيا، في أمريكا وفرنسا، الجامعات العربية تعلم أولادها ما أنتجه المفكر الغربي في علم الاجتماع، في النقد، في كل الميادين، هناك مرجعية غربية، وترجمات غربية، الأمة العربية مشلولة مخيا، مخها مشلول، شله حكام لا تساعدهم الثقافة· - كيف تقيم السنة الثقافية العربية بالجزائر بالمقاس الثقافي؟ * السنة إيجابية من حيث تواجد العرب ومن حيث إنتاج كمية محترمة من الكتب وفي مجال السينما والمسرح· - الكاتب وطار الذي واكب الهمّ والوهم والجرح العربي في كل توجعاته من خلال رواياته وشخوصها الذين يلونون لنا الفكر العربي بكل ألوانه المتداخلة ثم يتركون القارئ معلقا ينتظر مفاجأة أخرى، هل الطاهر وطار له تنبؤات جديدة؟ * العالم العربي هو الآن في حالة إفلاس، الأنظمة تهرأت وانكشفت، حتى الذين نصبوا هذه الأنظمة صاروا ينزعجون منها، وكل الحدود العربية صارت مهددة وهي حدود وهمية وضعها الاستعمار لا داعي للتشبث بالحدود بين سورية والأردن وفلسطين والعراق والجزائر والمغرب، يمكن إعادة التقسيم بكل سهولة، وبكل بساطة وبدون حسرة ولا أسف··· أنا أتنبأ بأن الغرب نفسه ينتبه إلى خطأه ويستجيب، الآن صرنا مرتبطين بالعولمة، صرنا مرتبطين بغيرنا، لا يمكن لأي بلد ما أن يتحرك بمفرده، والإنسانية كلها في مفترق الطرق لا تدري ما يخبئه لها المستقبل حضاريا وثقافيا، العالم العربي متهر وقابل لكل الاحتمالات، بما فيها التقسيم وإعادة رسم الخريطة، لماذا لم تطرح النظم الفيدرالية في أي بلد من البلدان العربية؟ لماذا سورية والأردن ولبنان وفلسطين ليست بفيدراليات؟ بماذا نفسر تدخل ساركوزي في شؤون الشعب الجزائري حيث يقول : "لا نريد أن تحكم الجبهة الإسلامية أو الإسلاميين في الجزائر، بأي حق؟!" الجزائر دولة مستقلة ولها علمها، ولها مواطنوها، ولها برلمانها، بأي حق يتدخل ساركوزي ويقول: "أنا أدعم هذا النظام على نظام آخر، بأي حق بوش يتدخل في مصر، هذا الوضع هش جدا·· جدا قابل لكل الاحتمالات"· - الرواية العربية رغم وصولها إلى أكبر الجوائز العالمية (نوبل)، إلا أنها ما تزال تتعثر، تسير سير الحمامة مرة وسير الغراب مرة، فكيف يمكننا أن ننتج الرواية العربية بروحها وأدواتها؟ * الرواية فن نثري دخيل على العالم العربي، كانت له بوادر لم تتطور ككثير من البوادر العربية، ظلت حتى العهود الأخيرة محصورة في مشروع الحكي كألف ليلة وليلة، وتغريبة بني هلال وبعض مقامات الحريري، لكن المسار العربي واحد لا يمكن أن يتطور في ميدان ويتأخر في ميدان آخر، نفس الرواية، نفس البحث العلمي، نفس الاختراعات، نفس الموسيقى ظلت في مستوى واحد، إلى أن تجرأت مجموعة من الناس وتوجهوا الى الرواية كما صنعها الغرب، كما صنعها الروس والفرنسيون والإنكليز، وقلدنا، ثم بدأنا التحرر من قيود الغرب وظهرت بعض الإبداعات، الإشكالية الآن هو أنّ الرواية أصبحت نوعا من الأقوال، من التجارة، ولكن المشاريع التي تجلب الشهرة وتجلب المال كما كانت في وقت من الأوقات الأحزاب مشاريع تجارية، يَبلُغُكَ أن فلانا كان شاعرا وتحوّل الى الرواية، ويأتيك ناس لم يقرأوا في حياتهم عملا دراميا واحدا، ويقول لك هذه الرواية ألفتها وطبعتها على حسابي إلى غير ذلك، وهذا الشيء كامل في أنحاء الوطن العربي، وأخشى ما أخشاه هو أن يبتذل العمل الدرامي وأن يملّ القارئ من هذه التفاهات التي تقدم له فتموت صناعة الرواية، قرأت في الأيام الأخيرة سبع روايات للكاتب التارفي الليبي إبراهيم الكوني، ووجدت أنه من أعظم الكتاب العرب سواء الذين ماتوا أو الذين هم على قيد الحياة، فصرت محرجا أن أقرأ لغير هذا الرجل، خاصة لشباب ناشئين في ميدان الكتابة، هناك بعض "الشللية" مجموعات تلتف حول شخص، خاصة في الجامعات، يتبادلون المصالح مع أساتذة جامعات أخرى ويجبرون طلابهم على تناول أعمالهم ويمتلكون أسماء، تظل أسماؤهم أكبر ملايين المرات من رواياتهم، هذا نجده في المغرب في الجزائر، في تونس وفي كل مكان، كان عندي أمس أحد الروائيين الصاعدين الذين برمجنا دراسة أعمالهم، فأبدى نوعا من الانزعاج أن لا يناقشه صديقه فلان وفلان، فقلت له نحن ضد "الشللية"، وضد قراءة الخدمات، أقرأ لك، وتقرأ لي وغير ذلك· - هل للطاهر وطار مشروع روائي جديد؟ * لم أنه بعد روايتي "قصيد التذلّل"، كتبت تقريبا ما يزيد عن نصفها وأنتظر الصيف لأتفرغ لكتباتها، وأنا لست من الذين يلجأون إلى الكم ليتحدث الناس عنهم، أنا بالنسبة لي مازلت محاصرا ب "اللاز"، و"الحوات والقصر"، و"الشهداء يعودون هذا الأسبوع"، و"الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي"، أنا من الذين لا يصطادون السردين ولكن أصطاد الحوت الكبير ولو كانت صفحاته قليلة، وهذا هو الإبداع، هو انفجار في داخل المبدع يظل يشع للناس دهرا طويلا· - لماذا يبقى الطاهر وطار محصورا في كتاباته بين أسوار الرواية دون الكتابات الأخرى في الفكر والنقد؟ * أنا أكتب الرواية والقصة القصيرة ولست مؤهلا لغير ذلك، حتى أنني لا أقرأ إلا في هذا الإطار، أنمي أدواتي باستمرار، ومنذ الستينيات قررت أن أتخصص في نوع من النشر وهو الرواية والقصة، حاولت كتابة المسرحية، لكن نظرا للظروف التي تفصل المبدعين الجزائريين في السينما والمسرح والكتابة بين مثقفين باللغة العربية ومثقفين باللغة الفرنسية لا يفهمون بعضهم انقطعت عن كتابة المسرحية، أنا كاتب درامي ولست كاتب مقالة، ولم أنجح في كتابة الشعر، ليس لي أذن موسيقية تعلمت العروض في جامع الزيتونة ولكن لا أفرق بين بحر وبحر، أكتب من حين إلى آخر انطباعات عن أشياء قرأتها، انطباعات سطحية لا صلة لها بالنقد ولا بالبحث· - هل هناك جديد فيما يخص جائزة الشعر "مفدي زكرياء" وجائزة الرواية اللتان تنظمهما الجاحظية؟ * جائزة الشعر كما تعلمون، صارت جائزة عربية تنظم كل سنتين وذلك حتى نتمكن من السيطرة على دراسة ما يأتينا، لأن في كل سنة المسافة الزمنية ضيقة ومحدودة، وبالنسبة لجائزة الرواية جائزة "الهاشمي سعيداني" التي يمولها الطاهر وطار من حر ماله، والتي اشتريت لها شقة ووقفت ريعها للجاحظية ولهذه الجائزة، هذا مع الأسف لم يجد صدى عند الناس، فلم نتلق إلا عددا قليلا ووزع على اللجنة في انتظار قرارها، وبالأمس اتصلت بوزارة الثقافة وطلبت منهم أن يعطوني ما نشروه من روايات للشباب، فوعدوني، لأنني وجدت عملا نشرته الوزارة عن طريق دار نشر خاصة "ريحانة"، فقلت لماذا لا تقدم هذه للمسابقة وأنا في انتظارهم؟ - الأديبة أحلام مستغانمي إثر إشرافها على تسليم جائزة "مالك حداد"، انتقدت بشدة "الجزائر عاصمة الثقافة العربية" واعتبرتها كرنفالا للسلب والنهب، فما صحة هذه المقولة ومطابقتها للجزائر عاصمة للثقافة العربية؟ * حضرت هذه التظاهرة وخاصة الفترة التي قالت فيها الأخت أحلام هذا الكلام، وهي طبعا حرة، ولا أدري مصدر معلوماتها لأنني شخصيا لا أمتلك معلومات من هذا القبيل، والمؤكد هو أن كل الجزائر الآن مصدر للنهب والسلب، ولا يمكن أن تكون بقعة هي أطهر من بقعة في مكان واحد، يظهر أن أحلاما اصطدمت أو صدمت ببعض مشاريعها وهي صاحبة مشاريع ما في ذلك شك - بعيدا عن قيمتها الروائية - هي صاحبة مشاريع، وزوجها أيضا صاحب مشاريع يصدر مجلة منذ دهر طويل· لاحظت بعض الإشكاليات عند أحلام، هي أنها تشكر البعض وتذم البعض وهم كلهم في كفة واحدة، تهاجم كل الأجهزة الجزائرية ولكنها تشكر من يمول هذه الجائزة، لذلك تتحدث عن الشباب العباقرة الموجودين في الخارج وأعتقد أنها نسيت أن هؤلاء هم أولاد مسؤولين وهم من أنشأوا مؤسسات في الغرب بأموال جزائرية، كانت غاضبة أحيانا، ويبدو أنها تعرضت لمشاكل كثيرة في هذه الجائزة التي آمل أن لا تنقطع وأتمنى أن تجد الترسيم من طرف الوزارة وتكلف بها الجمعية التي أنشأتها وهي رابطة الاختلاف، أما مسألة التهديد بنقل الجائزة فتبقى بينها وبين الجمعية التي تسير هذه الجائزة، القضية داخلية للجمعية· - لاحظنا غيابك عن الملتقى الدولي حول الرواية المترجمة من وإلى العربية، ونعلم أن أعمالك ترجمت إلى عشرات اللغات، فما هو السبب وأنت عميد الروائيين الجزائريين وأحد أركان الرواية العربية؟ * هناك تهميش للطاهر وطار من طرف الأمين الزاوي منذ اليوم الأول لمجيئه، حتى أن بعض مشاريعه وبعض تحركاته وبعض تشجيعاته لهذه الجمعية أو تلك، كله داخل في إطار محاربة الطاهر وطار وجمعية الجاحظية·· مرة الأمين الزاوي يتقدم باسم اليسار، مرة يتقدم باسم اليمين، ولكن المعاقب دائما وأبدا هو الطاهر وطار، أنا لست مثقف سلطة وهذا ما يحرج الكثيرين، دعيت بإلحاح شديد إلى المكتبة الوطنية لأحضر أمسية شعرية نظمتها سميرة قبلي، وجاءت إلى منزلي وهي تلح، وهي امرأة طيبة، ولكن يعز عليّ أن أحضر أمسية بدعوة وقعّ فيها مدير الأمن الوطني، وغيري حضر وتناول الكلمة، إنهم يحسدونني حتى على روحي المتمردة·