ما أكثر ما جرت الجملة التالية على ألسنة الناس: كل شيء نسبي في هذه الحياة! وما أكثر ما مر الناس على الحقائق الساطعة دون أن يعيروا لها بالا! عاودتني هذه الجملة وأنا أتصفح مجلة أمريكية تضمنت صورة للرئيس الراحل نيكسون وهو يذرف دمعا سخينا على زوجته المسجاة داخل تابوت يلفه علم أمريكي. هي علاقة زوجية انفصمت مثلما انفصمت ملايير العلاقات بين بني البشر منذ أن وجدت الإنسانية على سطح هذا الكوكب. وعاودتني في الوقت نفسه صور الفيتناميين خلال ستينات القرن الفائت وقد فتكت بهم القنابل العنقودية وأحرقت قنابل النابالم قراهم وأشجارهم وأحراشهم خلال العدوان عليهم من قبل الفرنسيين، ثم من جانب الأمريكيين. لم يبك الرئيس نيكسون على أولئك الضحايا، لا ولا بكى عليهم الرئيس جونسون ولا غيرهما من الرؤساء الأمريكيين الذين سكنوا البيت الأبيض لعدة عقود، في حين أن العالم ذرف دموعه على الرئيس جون كنيدي حين استقرت الرصاصات في رأسه بمدينة دالاس في نوفمبر من عام 1963. وبكى هذا العالم أيضا الرئيس أبراهام لنكولن حين اغتيل ذات يوم من عام 1865، لا لأنه انتصر في الحرب الأهلية الأمريكية على غرمائه من أهل الجنوب، ولا لأنه حرر العبيد السود، بل لأنه تجاوز عصره. هذه الحالة النسبية أمام الموت تتكرر في كل زمان ومكان، لكنها كثيرا ما تكون حالة مقصورة على البعض في حين أن الأغلبية لا تستفيد منها. وقبل أيام شاهدت في التلفزيون الفرنسي شريطا وثائقيا عن بقايا بعض (الأقدام السوداء) وهم يبكون أيامهم في الجزائر، ويندبون حظوظهم، وينهالون بالنقد الشديد على حكام بلدهم الذين فرطوا فيهم على حد تعبيرهم جميعا. وقد وجدت ذلك أمرا طبيعيا من جانبهم، لكن الذي حز في نفسي هو أنهم لم يشيروا ولو بكلمة واحدة إلى الجزائريين الذين كان أفراد منظمة الإرهاب السرية يحصدونهم حصدا في كل يوم. والعجيب في الأمر كله هو أن هذه النسبية أيضا تتحول بدورها إلى عنصر تستخدمه أوربا ضدنا كلما تعلق الأمر بالدفاع عن هوياتنا وعن بلداننا. وحينها يكون البكاء من جانب واحد، هو الجانب الأوربي، بل إن البكاء يصير حلالا على الإنسان الأوربي، حراما علينا. ويكون من حق الرئيس الراحل نيكسون أن ينال جائزة نوبل للسلام لأنه بكى زوجته بدمع سخين، وأحجم في الوقت نفسه عن البكاء على مئات الآلاف من الفيتناميين وغير الفيتناميين الذين حرقهم تحريقا طوال سنوات عديدة. فكيف يحدث توازن وسط هذا الخليط من المشاعر والأحاسيس التي غادرت مواقعها الأولى، واستقرت في جهات أخرى لا يميّزها سوى العنف والدمار؟