هناك صنف من الناس يحب كل شيء ينبض بالحياة في هذه الدنيا، يحب الجمال فتراه وهو فوق السبعين شابا ينبض قلبه دوما بالحياة والعشق والفن الجمال والناس والطبيعة، بل ويحب ويعشق الحياة كلها..الصديق عمر البر ناوي الذي ارتحل عنا إلى الأبد من غير وداع يوم الاثنين الماضي واحد من هذه العينة من عاشقي الحياة بامتياز..كان مذ عرفته وأنا مجرد شاب في مقتبل العمر أثناء دراستي الثانوية وعملي الإضافي في الإذاعة الوطنية في النصف الثاني من الستينات دائم الابتسامة للذي يعرفه و الذي لا يعرفه، إن كنت تعرفه تتعمق محبتك به، وإن كنت لا تعرفه تزداد قربا إليه كان عمر ينطق شعرا ويكتب شعرا ويعشق شعرا، بل إن كان عمر هو الشعر نفسه..كانت بدايات صداقتي مع عمر في مطلع السبعينات ،في تلك الفترة كنت على أبواب الانتهاء من الدراسة الجامعية ولكنني كنت اعمل بالإذاعة في نفس الوقت.في تلك الفترة أسندت رئاسة تحرير مجلة " ألوان " التي كانت تصدرها وزارة الثقافة والإعلام حينها لعمر البرناوي، وكان يدير تلك المجلة الرائدة الأديب الشاعر الصديق أبو القاسم خمار . كان مقر المجلة يقع في شارع حسيبة بن بوعلي غير بعيد عن محطة الآغا . وكان البرناوي يعرفني من خلال مقالاتي في جريدة الشعب والمجاهد الأسبوعي ومجلة الأثير التي أصدرتها الإذاعة التلفزة في مطلع السبعينات .وكتبت أول مقال لمجلة ألوان، كان المقال دسما بالمعلومات و الأفكار حول التمدن الفوضوي العمراني وخصوصا حول مدينة الجزائر التي بدأت آنذاك تتمدد بشكل فوضوي على حساب سهل متيجة الخصيب .قرأ عمر عليه رحمة الله المقال وأعجبه، وسلمه فورا لمدير المجلة بلقاسم خمار الذي لم تكن لي به سابق معرفة قبل ذلك،ومنذ ذلك اليوم تولدت صداقة عميقة بيننا نحن الثلاثة عمر وسي بلقاسم وكاتب المقال . فرغم فارق السن بيننا فقد تعمقت الصداقة بيننا وكنا نلتقي بشكل شبه يومي في مجلة ألوان التي حولها الثنائي المرح خمار والبرناوي إلى خلية نحل.كان يتوافد على المجلة في مقرها الضيق الواسع في نفس الوقت يوميا عشرات الفنانين و الكتاب والصحفيين والمفكرين جزائريين وعربا .من بين الأسماء التي كانت تزورنا في المجلة الفنان القدير حسن الحسني المعروف ب "بوبقرة " والذي أجرى معه البرناوي حديثا هو من أمتع ما قرأت ، كان حديثا غير مكتوب ، كان حديثا بالإشارات و الصور فقط، فقد كان بوبقرة فنانا عبقريا "يفهمها طايرة"كما يقول المثل الشعبي . وكان البرناوي في هذا الحوار الذي تم بلغة الإشارة فنانا و عبقريا هو الآخر في إدارة ذلك الحوار، وكان من الذين زاروا المجلة قاسي تيزي وزو شفاه الهف والكاتب والشاعر المرهف الراحل صالح خرفي ، وأسماء كبيرة وأسماء كانت صغيرة آنذاك لكنها كبرت لاحقا .ومن بين الذين كانوا يترددون على المجلة باستمرار الأستاذ الصديق عبد القادر نور المدير السابق للإذاعة والشاعر الكبير الراحل محمد الأخضر السائحي، وأسماء كثيرة لنجوم في الفكر والفن والأدب. وكانت كؤوس الشاي تظل رائحة غادية، ولكن تلك الحركة كانت تتحول مع قرب إقفال كل عدد من المجلة إلى اتجاه آخر، في تبويب المواضيع، في الإخراج وفي التصحيح لاحقا. وكان البرناوي حريصا على كل شيء ، يتابع المقالات كلها قارئا ومصححا ومعدلا لفكرة أو جملة أو مضيفا لفقرة، و يتابع الإخراج والتصحيح النهائي مع المطبعة ، ولا يسمح بأي خطإ كان .قبل أن تعرف بلادنا آفة الإرهاب الأعمى كان عمر مع نهاية كل أسبوع يمتطي سيارته المتواضعة ويسافر في رحلة صيد ممتعة ،شرقا أو غربا أو جنوبا أو يتوه وسط البلاد دون رفيق غير بندقيته التي كان يحبها بلا حدود فيسهر الساعات الطوال على تنظيفها وتلميعها.أما سلوقيته الوفية فقد كانت هي الأخرى رفيقة دربه في طول البلاد وعرضها ، فهي التي تدله على فريسته تتحسسها و تشمها على مسافات بعيدة ، بل وترصدها طائرة أو ساقطة بفعل رصاصات عمر.كان عمر يموت عشقا في الصيد البري مثلما يموت عشقا في الصيد البحري .في مطلع التسعينات استقر به المقام وقد كان عضوا في المجلس الانتقالي بالسكنات الأمنية بقصر الأمم، كنا نلتقي بين الحين والآخر ساعات طوال نتناقش في أوضاع البلد فنجد عمر وهو الوطني حتى النخاع يتحسر على الذي وقع للجزائر، على الانقلاب الفكري الذي حدث على الناس حيث أصبح البعض يفتون و يحللون ما حرم الله، وعلى تلك الردة الفكرية التي كانت تجيز القتل الفردي للمسؤولين وللفنانين والكتاب و الصحفيين والشعراء وكل من يحملون فكرا أو قلما بل وكل من يحملون الوطن في قلوبهم. وكان عمر يموت كل يوم وهو يشاهد تلك المجازر الجماعية ضد الشعب من تلك العناصر التي ضلت طريقها فسلكت طريق الموت والقتل، وعمر كان يحب مثل كل الناس الطيبين الحياة والجمال.ولكن قلب عمر النابض كان يجعله كل مساء خاصة عندما ينام الناس في تلك الأيام الحالكة من تاريخ الجزائري تحرك ليوقظ فيه حبه القديم حب الصيد..يترك الرجل أبناءه وزوجته نياما وينزل للبحر خلسة إن في الصيف وإن في الشتاء، لا يرافقه سوى معشوقته الوحيدة في تلك الفترة صنارته و معها تبقى عينا عمر تترصد كل اهتزاز من تلك الصنارة التي تسعده أو تغضبه في نفس الوقت، فإن هو سحبها ووجدها تجر حوتة فإن ذلك سينسيه بعض الوقت هموم البلد ومأساته التي كانت تقتله كل لحظة عندما يهز سمعه انفجار مدو هنا أو هناك، أو يتناهى إلى سمعه خبر مشؤوم عن اغتيال جبان لشاعر صديق أو فنان أو كاتب أو مواطن يعرفه أو لا يعرفه أو جندي أو دركي أو رجل أمن يحمي الوطن و يدافع عن حدوده، وإن خانته تلك الصنارة فإنهاستضيف لأحزانه جراحا غائرة في جسمه النحيف. و كانت السيجارة اللعينة لا تفارق شفتي عمر..نصحناه أكثر من مرة أن يتركها، لكنه كان يسحقها ويدوسها تحت رجليه أكثر من مرة حتى نتوهم أنه توقف عن التدخين تماما، بل إنه كان يتوقف يوما أو بعض يوم و لكنه يعود إلى السيجارة رغم انفه وهو الذي لم تقهره سوى تلك السيجارة للعينة كما كان يقول من حين لآخر..مات عمر وقد كتب أجمل القصائد فغنى له الفنانون أجمل الأغنيات، غنى للجمال وللحب فأبدع. غنى للوطن أجمل الأبيرات فأطرب وأمتع .تمتع بالدنيا مرات، وخانته الدنيا مرات أخرى، فكتب أجمل قصيدة عن هذه الدنيا اللعينة التي ترفع بعض التافهين للسماء، وتطفئ النجوم والشموع فتحولها إلى دخان بل إلى رماد يدوسه التافهون والرديئون والمتزلفون والشياتون والسفلة الساقطون ..مات عمر، لكن عمر الفارس، عمر الشاعر، عمر الصياد، عمر الفنان، عمر الكاتب، عمر الأديب، عمر الصحفي، عمر المبدع، عمر الإنسان، عمر العاشق الكبير للحياة لم يمت..لئن مات عمر..فإن عمر لم يمت .. بقلم محمد بوعزارة [email protected]