تعدّ الحرفة التقليدية بمثابة الإرث العائلي الذي يتم تداوله جيلا بعد جيل، ولعلّ اعتبار بعض الحرف بمثابة الإرث هو السر وراء بقائها إلى يومنا هذا، فيما اختفت حرف أخرى لم تجد من يحافظ عليها، هذا عموما الانطباع الذي تولّد لدينا ونحن نتحدث مع السيد بوخميس دربال المدعو عمي ''حسين'' وهو حرفي في صناعة النحاس التقته ''المساء'' مؤخرا بالمعرض الدولي للصناعات التقليدية. عندما تجلس إلى حرفي ما وتسأله عن سبب اختياره لحرفة ما دون أخرى يجيب قائلا: ''إن الحرفة موجودة بالعائلة وحتى لا تندثر تعلمتها عن أقاربي''، فنكتشف أن من يسمون أنفسهم اليوم بشيوخ الحرفة هم أولئك الذين ترعرعوا في أحضان الحرفة بحكم أن أغلب الحرفيين القدامى كانوا يمارسون نشاطاتهم اليدوية بالمنازل، وبحكم تعلقهم بالحرفة يجتهدون في تعليمها لأبنائهم، ومن بين هؤلاء بوخميس الذي تعلم حرفة النحاس من عمه حين كان عمره 12 سنة، ولأنه تعلق بها وأبدع فيها أمضى 44 سنة من حياته في صناعة النحاس دون أن يشعر بمرور الوقت، بل ولشدة حبه لحرفته غاص فيها وبحث في كيفية تطويرها وإعطاء طابع خاص لأعماله، بحيث تظل شاهدة عليه. وحول حرفته حدثنا قائلا: ''شدّة ارتباطي بالنحاس جعلتني أصنع أي شيء أرغب فيه من النحاس، وحتى الأشياء التي لا يمكن تجسيدها بالنحاس استطيع أن أجعلها تحفة فنية باستخدام صفيحة النحاس، كيف لا والنحاس أصبح جزءا لا يتجزأ من حياتي أعيش به ولا استطيع التخلي عنه''. ويضيف: ''نحن الحرفيون اليوم نعمل وفق ما يتطلبه السوق للأسف الشديد وذلك حتى يتسنى لأعمالنا أن تسوق، وهو ما جعلنا لا نبدع كثيرا في صنع بعض التحف الفنية لأننا نخضع لاحتياجات السوق الذي يطلب منا اليوم أن نصنع اللوحات النحاسية المزينة بآيات قرآنية لتقدم بالمناسبات كهدايا إلى جانب الصينية النحاسية التي وإن تراجع الإقبال عليها تظل مطلب كل سيدة تملك قاعة جلوس تقليدية''. ورغم أن عمي حسين من ولاية قسنطينة المعروفة بصناعة النحاس، إلاّ أن لانتقاله للعيش بولاية ميلة أثرا كبيرا على حرفته، وذلك في جعله يفكر بإعطاء طابع مميّز لأعماله حتى تبدو مختلفة عن غيرها، بحيث يكفي النظر إليها لمعرفة اسم الشخص الذي صنعها، يقول ''أميل عند إعداد تحفة نحاسية إلى تزيينها بالزخرفة البربرية، وذلك من خلال الحصول على النماذج بعد البحث في تاريخ مدينة ميلة المعروفة بآثارها الرومانية، فالزخارف التي تزيّنت بها المباني القديمة لا تزال شاهدة على حضارة زالت منذ عهود. رغبت أيضا في أن أحمي هذا التراث بتجسيده على أعمال فنية نحاسية تذكرني وتحفظ تراث بلادي، ولعلّ من بين الأمور التي تميّز أعمالي هي استغلال ما تملكه المرأة البربرية من حلي كنماذج لأعد بها التحف النحاسية، فإذا أمعن الشخص النظر في صينية نحاسية يجد أن الأشكال المتراصة بها عبارة عن مجموعة متنوعة من الحلي التقليدية التي تتزين بها المرأة''. وحول وضع الصناعة التقليدية عموما بالجزائر، يرى عمي حسين أن هناك اهتماما كبيرا من السلطات المعنية بالحرف التقليدية، وفي المقابل هناك أيضا إقبال كبير من الشباب على تعلم بعض الحرف خاصة النحاس، أما بالنسبة للفتيات فلا أنصح أي فتاة بتعلم حرفة النحاس لأنها برأيه حرفة لا تناسب الجنس اللطيف بحكم أنها تتطلب جهدا عضليا وصبرا كبيرين إلى جانب التعامل المستمر مع النار ما يجعلها حرفة رجالية، وعلى العموم يمكن للفتاة أن تكون عاملا مساعدا فقط. هذا وقد شارك محدثنا في العديد من المعارض داخل الوطن وخارجه، حيث وصلت أعماله إلى كل من فرنسا، ألمانيا وإيطاليا. وعن أحد أهم الأعمال التي أنجزها طيلة مشواره، أشار إلى ما اسماه''بعظمة الحرية''، وهي عبارة عن عظمة مصنوعة من النحاس تخرج منها حمامة السلام، والتي حصلت على ميدالية ذهبية لأحسن عمل فني. وعن مشاريعه المستقبلية، يوضح أن اهتمامه يتوجه اليوم لصنع أكبر قدر من النحاس يفرغ فيه كل مواهبه وإبداعاته ويطلق عليه اسم القدر العجيب يوضع في وسط مدينة ميلة ويعتبر بمثابة رمز للمدينة لاسيما وأنها تحتفل سنويا بعيد الكسكسي.