قلمان من أقلام الجزائر أعلن عن جفافهما بعد مواسم الخصب والعطاء، منحا للفكر زروع النخيل والسنابل وأوقدا قناديل الزيت في زمن كانت فيه المواسم شحيحة والمعرفة ضيقة الرقعة، يرحلان وكل واحد منهما في نفسه شيء من كلمات لم يخبر بها، وأحلام ما تزال لم تؤول بعد، إنهما الدكتوران عبد الله شريط وأحمد لمين. حينما نبحث في محتويات الجزائر فإننا ولا شك لا نقف أمام واجهات بازارات فكرية تستعرض زخارف الثقافة العالمية وما جد في سوق الكتاب واستكشفه الفكر البشري من عوالم كان يصعب الإبحار إليها والوصول إلى تخومها لأنها والحقيقة تقال كانت الشيء الذي يقال عليه المستحيل، لكن الجزائر ملكت ومازالت تملك الكثير من الزاد المعرفي وتقيد الكثير من الأسماء التي سطرت للثقافة العربية الاسلامية فصولا من الأمجاد وأبوابا من الفتوحات وواصلت طريقها في البحث عن الكنوز التي غمرتها الأزمنة الغابرة وأرهقتها بطون الخزائن القديمة وطلاسم القداسة. الأستاذ عبد الله شريط كان علم من أعلام الجزائر في زمن كانت فيه الاعلام تحسب على رؤوس الأصابع فإذا فتحنا سجل العلماء والمفكرين من ابن باديس والإبراهيمي وفرسان جمعية العلماء شعراء وكتاب إلى أن نصل إلى النقاد المفكرين أمثال بن نبي وعبد الله شريط وأبو عمران الشيخ إلى الأدباء أمثال عبد الله الركيبي، أبو العيد دودو، عبد الملك مرتاض، التلي بن الشيخ والرعيل الأول ممن زرعوا الحرف العربي وسقوه فكرا خالصا غير مشوب أو مخلوط، نجد هذه الجوه التي أعادت للجزائر وهجها العربي وعرفت من شاورته الظنون بأعلامها وأقلامها وعمقها التاريخي. فالدكتور شريط الذي نقب عن فكر بن خلدون وحلله وأعاده إلى صفائه ومن خلاله عرف بالمجتمعات وثقافتها وكل موروثاتها الاخلاقية والعقائدية فأظهر فكرا مغاربيا خالصا. والدكتور محمد لمين الذي أبهره الأدب الشعبي بكل فنياته وتقنياته وفصوله وما يحمله في طياته من مؤشرات حضارية وتقاليد وأفكار تلاقيه مع النهر الثقافي العربي تارة وتارة أخرى تجعل منه رافد قويا لهذا النهر الذي يصب في ثقافة واحدة. أحمد لمين غاص في الأدب الجزائري الذي كان بعض الجاهلين يمرون عليه مرور الكرام ولا يقفون عند ابداعاته ودرره وثراته وتميزه ويكتفون بالأداب الرسمية التي صنعتها أنظمة السلاطين والملوك والأمراء فكانت تكتب لهم وعنه بينما هناك أداب شعبية كانت أكثر إبداعا وعمقا وتعبيرا عن الشعوب وقد استطاعت هذه الأداب الشعبية أن تتخطى الحدود والاقاليم وأن تصبح ادبا عالميا مثل »ألف ليلة وليلة«، أحمد لمين غاص في بحر هذه الأداب وبحث عن اللونجة، والعلجة والجازية ليضيف لهؤلاء الأميرات الشعبيات أميرة جديدة وملحمة للحب والوفاء وملهمة للشعراء إنها ملحمة حيزية القصيدة الرائعة التي لم تكن مجرد قصيدة من تلوين شاعر فحل بل كانت حقيقة من هذا الشعب الذي أحب وعشق الجمال وكان له الوفاء والإخلاص فكانت ملحمة حيزية القصبة الواقعية والقصيدة التي ألهمت القصائد وأصبحت أما من أمهات الشعراء يستولدون منها الأفكار ويستعيرون منها الصور والألوان ويصنعونها فنا بين عبد الله شريط أحمد الأمين رابط الثقافة والبحث سارا على طريق واحد وكل منهما ترك أثره على صفحات الثقافة الجزائرية. الجزائر تفقد أقلامها وأعلامها لكن يبقى جمالها وثراؤها ينجب الاعلام ويصنع الاكتشافات، رحل عبد الله شريط وأحمد لمين كما رحل الكثيرون من الاعلام لكن بقاء أعمالهما ستضيئ الطريق وتعطي للجزائر المزيد من الخصوصية في الفكر والتوجه. ابن خلدون الرجل الذي ابتدع علم الإجتماع، وحيزية التي أضحت رمزا من رموز المجتمع الجزائري يلتقيان ويمضيان إلى سبيلهما في شخصين كبيرين عبد الله شريط وأحمد لمين. تغيب الوجوه وتوارى بالتراب وهي سنة الله وكل نفس ذائقة الموت، ولكن الأعمال تبقى حية ما بقيت الأقلام تكتب والكتب تطبع لأن العلماء هم أثر على الطريق التي تربط بين الماضي والمستقبل ولا يمكن أن يدلنا على المستقبل إلا الماضي ثم الحاضر ثم ليجري الزمن ويستمر. رحم الله الفقيدين وعوضنا عنهما أقلاما وأعلاما.