تعود علينا اليوم الذكرى ال49 لمجازر 17 أكتوبر 1961 التي راح ضحيتها مئات الجزائريين بباريس، في وقت لازالت فيه الدولة الفرنسية ترفض مطلب الاعتراف بالجرائم المرتكبة إبان هذه الليلة الاستعمارية الطويلة، معتمدة الصمت والظالم الرهيب، رغم المطالب المتعددة وشواهد شوارع وأزقة باريس ونهرها الشهير الذي لا زال يحفظ مظاهر القمع الوحشي الذي أوقعه السفاح موريس بابون وجنوده، على الأبرياء من أبناء الجالية الجزائرية بباريس. فبالرغم من مرور 49 سنة على هذا القمع الدامي الذي تفنن في صنعه البوليس العنصري الفرنسي بقيادة الحاقد ''بابون'' في حق المهاجرين الذين رفعوا صوتهم عاليا ''لا لجزائر فرنسية''، لا زال التعتيم يطبع الجرائم المرتكبة في تلك الليلة السوداء، بالرغم من وجود العديد من الأدلة الواضحة التي قدمها المؤرخون الجزائريون والفرنسيون، حيث ترفض فرنسا الاعتراف بمسؤوليتها على هذه الجريمة ضد الإنسانية التي تعرض لها شعب كان يطالب باسترجاع سيادته. وقد سجل تاريخ الثورة الجزائرية الحافل بالبطولات، خروج المهاجرين الجزائريين في السابع عشر من شهر أكتوبر 1961 إلى شوارع باريس وضواحيها في مظاهرات سلمية، مطالبين برفع حظر التجول وقيود الرقابة البوليسية على تحركاتهم العادية، والتي فرضها عليهم محافظ الشرطة للمنطقة الفرنسية لاسان (ايل دوفرانس) موريس بابون بموجب بيان صادر في الخامس أكتوبر ,1961 ومدعوم من قبل السلطات العليا للدولة الفرنسية. وكرد فعل لهذا الإجراء خرج في 17 اكتوبر 1961 الجزائريون بمن فيهم النساء والأطفال الذين قدموا من ''نانتير'' و''أوبيرفيليي'' و''أرجونتوي'' و''بوزونس'' وحتى من الأحياء الفقيرة لباريس على غرار ''مينيلمونتان'' من أجل الدفاع عن حريتهم وكرامتهم، وتوجه العمال بعد خروجهم من مقرات عملهم في حدود الساعة الخامسة إلى ساحة ''الأوبرا''، التي اختيرت موقعا للتجمع باعتبارها من الأماكن الاستراتيجية بباريس، وشارك في المظاهرات حوالي 30 ألف متظاهر طافوا 20 حيا من أحياء باريس المعروفة، في تظاهرة سلمية عارمة للتنديد بهذا الحظر التعسفي والعنصري المفروض على الجزائريين دون سواهم، رافعين شعارات منددة بهذا الإجراء التمييزي على غرار ''فليسقط حظر التجول'' و''تفاوضوا مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية'' و''تحيا جبهة التحرير الوطني'' و''الاستقلال للجزائر''، ولكن سرعان ما تحولت هذه المظاهرة السلمية إلى مأساة، بعد أن قابلتها قوات البوليس العنصري التي سدت كل المنافذ التي توصل إلى ساحة ''الأوبرا''، بالغازات المسيلة للدموع والعصي وطلقات الرصاص. وعند ساعات متأخرة من مساء ذلك اليوم، أعطى محافظ شرطة باريس السفاح ''موريس بابون'' أوامر لجنوده من الشرطة ومن ''الحركى'' بالتصدي لهذه التظاهرات، فتم التصعيد من وتيرة العنف والبطش، وشرعت آلة القتل والتعذيب في عملها وكانت الحصيلة ثقيلة حيث سجل المئات من القتلى والجرحى والمفقودين في صفوف الجزائريين المتظاهرين، بينما تم حسب شهادات من عايشوا الحدث توقيف الآلاف من الذين حجزوا لعدة أسابيع بقصر الرياضات بفرساي وملعب ''بيار دي كوربارتين'' وفي مركز ''فانسان'' و''فيلودروم ديفار'' وقصر المعارض، حيث خضع هؤلاء لأشنع ممارسات التعذيب والعنف وتوفي العديد منهم لعدم تقديم إسعافات لهم. وللتغطية على فظاعة الجريمة ووحشيتها، لجأ البوليس العنصري إلى الإلقاء بالمهاجرين الجزائريين القتلى والأحياء في نهر السين، حيث أوردت بعض الشهادات الحية أن عشرات الجثث ظلت تطفو على نهر ''السين'' أياما عديدة بعد تلك الليلة السوداء، فيما تم اكتشاف عشرات الجثث في غابتي ''بولون'' و''فانسون''، وأعلنت السلطات الفرنسية آنذاك عن سقوط 200 ضحية، في حين أن عدد الضحايا فاق ال500 بين شهيد ومفقود، وامتدت حصيلة الاعتقالات لتشمل 7500 شخص من مختلف الشرائح. ولم تسمح حكومة فرنسا الاستعمارية حينها بإنشاء لجنة تحقيق ولم يتم الرد على أي شكوى، وفرضت الصمت حول هذا القمع الشنيع، من أجل إدخاله طي النسيان، ولا سيما من خلال الرقابة المنظمة التي شملت حجز ومنع العديد من المقالات الصحفية التي تحدثت عن تلك الأحداث الدامية. ويذكر باحثون فرنسيون في هذا الإطار أنه خلال الأسابيع التي تلت هذه الحملات العقابية الشرسة، استعمل ''موريس بابون'' بدعم من وزير الداخلية ''روجي فري'' ورئيس الوزراء ''ميشال دوبري'' ورئيس الجمهورية ''شارل ديغول'' كل الوسائل الممكنة لإفشال الطلبات الخاصة بإنشاء لجان تحقيق التي قدمها المجلس البلدي للمجلس العام للسين ولمجلس الشيوخ. لكن مجازر 17 أكتوبر 1961 تمكنت اليوم من اجتياح الفضاء العام واسترجاع فظاعتها في الذاكرة الجماعية، بفعل تجند العديد من الجمعيات والمنظمات إلى جانب الكتاب والمثقفين من أجل إحياء الذاكرة وكشف الحقيقة، بالرغم من استمرار سياسة التعتيم من خلال منع هؤلاء من الوصول إلى الأرشيف الذي دون تلك المجازر. وتعتبر المحامية نيكول دريفوس شميدت في شهادتها عن أحداث 17 أكتوبر ,1961 أن ''النسيان يعني استمرار المجزرة، ولا يعني فقط ظلم الذين قتلوا والذين لا تزال أجسادهم تحمل آثار التعذيب بل ظلم شعب بأكمله''، مستخلصة في نفس الصدد بأنه ''لما كان الأمر يتعلق بجريمة ضد الإنسانية فإن ذلك يعني ظلم الإنسانية بأكملها''. وتبقى مظاهرات 17 أكتوبر 1961 بباريس إحدى الصفحات البارزة للتاريخ الوطني الثوري، حيث ترمز لوحدة الجزائريين وقوة تنظيمهم عندما يتعلق الأمر بقضيتهم الوطنية، علاوة على إثباتهم للعالم أجمع قدرتهم على نقل الثورة إلى عقر دار المستعمر، في وقت كانت فرنسا تعتقد أن أواصر هؤلاء المهاجرين بالوطن الأم قد تقطعت، غير أن التحام الجزائريين وإيمانهم بوطنهم وعدالة ثورتهم جعل تلك المظاهرات أكثر تنظيما وانتشارا وكانت وحدة القرار السمة البارزة فيها. كما كان لأحداث 17 أكتوبر 1961 صدى كبيرا في تعزيز مطالب جبهة التحرير الوطني بالاستقلال، حيث تبع تلك الأحداث إضراب 20 يوما عن الطعام، قام به السجناء بمختلف سجون فرنسا، ليبلغ الحدث المعنوي مفعوله إلى الأممالمتحدة، وتقرر بعدها تمكين المساجين من كافة الحقوق السياسية.