عندما نتكلم عن الحضارة الإسلامية في بلاد المغرب والأندلس، لا يمكن أن نتخطى عتباتها دون التوقف عند أكبر محطة لهذه الحضارة التي استطاعت تشكيل حياة التعايش بين الأديان والأفكار وارتباطها معها بجسور متينة أدت الى قطبية واحدة الإنسان والمحبة، حيث تحول الحب الى دين وإيمان تجتمع عليهما كل الأديان السماوية، فترجمت هذه المحبة في التصوف، وتلمسان مدينة روحية للطرق الصوفية لما تتميز به من تواجد أقطاب التصوف، فهل يدرج السماع الصوفي كمنبع من منابع الصفاء في عاصمة الثقافة الإسلامية؟ عندما يذكر اسم تلمسان لا بد وأن يذكر ويخطر على الذاكرة اسم الولي الصالح سيدي بومدين، وإذا ذكر هذا الاسم فإنه ولا شك يربطنا بالعالم الإسلامي عن طريق التصوف سواء بالطريقة القادرية باعتبار سيدي بومدين من شيوخها وقد ألبسه خرقتها مؤسسها سيدي عبد القادر الجيلالي، أضف الى ذلك الطرق الصوفية الأخرى الشاذلية، التجانية، السنوسية والرحمانية وكل هذه الطرق لها إبداعها في السماع الصوفي وسلوكها في الإنشاد الديني، وعن طريق هذه المدارس الصوفية نمتد ونتواجد ونتواصل من أقصى نقطة في المشرق إلى أقصى نقطة في المغرب. وإذا بحثنا في أعلام وشخصيات المذهب الصوفي، فإننا نلاحظ بكل فعالية الدور الذي يلعبه الشعر في تحديد هذه الشخصيات ورسم خطوط الفكر الصوفي، سواء كان بالمغرب أو المشرق، والأكثر من هذا، فإن الشعر الصوفي يظهر في رقة وشفافية ويتغطى برمزية مقتبسة من أسماء صنعت لها واقعا في الشعر العذري، حتى أضحت ليلى، سعاد وهند رموزا أو محطات للصوفي يتفيأ ظلالها للاستراحة من عناء الطريق. إننا إذا عدنا إلى سيدي بومدين نجده شاعرا رقيقا حساسا، كيف وهو الذي عاش صباه بمدينة إشبيليا يرعى الغنم، ونحن نعلم مدى تأثر الشعر الأندلسي بالطبيعة عكس شعراء المشرق، فالطبيعة من شجر وثمر، وماء منهمر وطير يشدو على دوح أو على أنغام وتر، وواد يذوب من على شاهق منحدر، وشمس وقمر، وسحاب ومطر، كل هذه المعزوفات التي تؤديها الطبيعة تنعكس على حياة الشاعر فتطبعه بطابعها وتسكنه بروحها بين التمرد والإذعان، بين الصفاء والتلبد، وسيدي بومدين كانت هذه الومضات تشحنه بروح الشعر فيتفجر ينبوعا للمحبة نحتته التجارب وشكله التمرس فكانت قصته؛ بل حياته حياة طفل صارع من أجل البقاء وطلب العلم في ظروف صعبة فوجد نفسه راعيا عند إخوته للغنم ثم يهرب إلى المغرب الأقصى ومن هناك تبدأ رحلته مع العلم ومع التصوف لينزل مدينة بجاية ويختارها دارا لإقامته وتشاء الأقدار أن تكون تلمسان دارا لرقاده. سيدي بومدين نجد فيه الشاعر الحساس الرقيق الذي تتحول أشعاره إلى معزوفات روحية وأناشيد سماوية، فتحوله روحا ونغما صوفيا لا تبدعه إيقاعات الدفوف ولا أوتار العيدان، وإنما تنسجه أنفاس إنسان حارة وعبق روح فنان ترقى به سلّم المحبة حتى امتزج مع النور. الطرق الصوفية، بل السماع الصوفي الذي أصبح ميزانا للذكر والتسبيح والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ليتحول السماع إلى فن قائم بذاته له حركاته وله مداخله ومخارجه وجلساته، بل ونشواته الروحية، حتى أصبح العتبة التي يتم الدخول منها الى المناطق السرية؛ أو تلك التي يطلق عليها ''السر'' أو ''الحضرة'' عند عامة الناس، أما عند خاصتهم فهي ''الحضرة'' وتعني حضور القلب والروح مع الله. السماع الصوفي، بل التصوف، يشكل مركزا للحضارة الإسلامية في المغرب العربي، بل أكثر من هذا، فإن المجتمعات المغاربية مجتمعات صوفية من حيث ثقافتها ونظمها ونسيجها الاجتماعي. فالتصوف له سلطة روحية نافذة ومعترف بها ويتمثل في الزوايا بشيوخها ومريديها، الذين هم بدورهم أنتجوا فنا صوفيا أثروا به الحياة الثقافية والدينية، حيث أصبح هذا الفن يستقطب المريدين ويفجر أحاسيسهم ومكنوناتهم ويعبر عنهم أحسن تعبير، بل أصبح عنصرا من عناصر الطب النفسي تشفى من خلاله الأنفس من الأمراض المستعصية، فينشد المنشد، ويغني المغني للشيخ ''سيدي بومدين جيتك زاير أجيني في المنام نبرا'' فأصبح الغناء بمثابة دعاء وبوح بما يخامر النفس ويتخللها من أمراض ومشاكل، وبها أن الشيخ يعد مرشدا روحيا ودليلا على طريق الخلاص، يهرع إليه المريد ويبثه شكواه، فبهذا التصور تحولت الأضرحة إلى عيادات للاستشفاء لطلب الحاجات وللتبرك وللبث النفسي، باعتبار أن صاحب الضريح ممن اشتهروا بمعالجة هذه الأنفس. الغناء عندنا صوفي المتمعن في الفن الجزائري عموما يجده يستضيئ من هذه المشكاة الصوفية ولا يخرج عن دائرتها، حتى ذلك الفن الذي يتصف بالغزل وبالعاطفي، فهو صوفي وعميق في هذه النزعة الصوفية ومتمرس بها. الفنان عندنا يلقب بالشيخ، والشيخ هو رمز ديني اجتماعي، أي أنه صاحب حكمة ورأي وكلمة مسموعة، والشعراء يسمون بالمشايخ لأنهم ينحدرون من مدارس صوفية، فالثقافة ثقافة صوفية، والغناء غناء صوفي، حتى التعبير الشعبي يضم هذه الجمل مثل ''الخلوة''، و''المشايخة'' و''الخلواتية''، فهذه المصطلحات دخلت الفن وبالأخص الغناء، وأصبح الشيخ إما شيخ زاوية أو شيخ فن، بينما نجد الفن اليوم يحايد طريق الفن بالأمس، بل ويضاده فتغيرت التسمية من الشيخ الى الشاب، ومن الشيخة الى الشابة، وكأنما هناك ثورة على القديم تعبث بكل القيم وتحاول طمس هذه المنابع التي هي نسيج لمعمار حضاري عريق. السماع الصوفي، بل التصوف في عمقه الفني، سبق لمدينة تلمسان وأن استضافته في ملتقى شاركت فيه دول عربية وإسلامية بفرق غنائية، نذكر من هذه البلدان إيران وتركيا، بالإضافة إلى البلدان العربية، حيث أعادت إلى الروح الصوفية توهجها، ولتلمسان تألقها وعراقتها وثقافتها المتميزة. ومن خلال ما تقدم، فمن الواجب أن نطرح هذا السؤال: هل تم التفكير في إحياء ليالي سنة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية بمثل هذه الفرق، أم أن تلمسان سوف تمضي هكذا في استحضار سيدي بومدين وفريق من سلاطين العلم والتصوف من علماء المغرب والأندلس دون أن تستقبل هذا الحضور بالإيقاعات والإنشاد؟