تعتبر السينما من أهم وأخطر الفنون لما تملكه من قدرة كبيرة على كشف الزوايا المعتمة والنيرة من حياة أيّ شعب وتسجيلها وتوثيقها للتاريخ، فالسينما التركية التي شقت طريقها من الأناضول (الريف التركي) إلى اسطنبول (الحضارة والتطوّر) عبر عتمة الصالات راسمة على شاشاتها البيضاء قصصا عكست بقدر كبير التحوّل الذي تعيشه تركيا اجتماعيا وسياسيا ضمن توليفة سينمائية تدلّ على الموهبة الكبيرة التي تتمتع بها السينما التركية. ويمكن القول إنّ النجاح الكبير الذي حقّقته السينما التركية في السنوات الأخيرة لا جدال فيه وما دخولها البيوت العربية من خلال شاشاتها الواسعة عبر الفضائيات إلاّ دليلا على هذا النجاح، وعلى الرغم من ذلك إلاّ أنّ المهتمين بالشأن السينمائي في تركيا يرون أنّه على الرغم من النجاحات الكبيرة التي حقّقتها الأفلام التركية في السنوات الأخيرة الماضية إلاّ أنّ الحلقة الأضعف في مسيرتها بقيت في التمويل، فعلى الرغم من إنشاء وزارة الثقافة التركية للمجلس الأعلى لدعم السينما في عام 2005 إلاّ أنّ مساهمته في تمويل المشهد السينمائي التركي بقيت محدودة للغاية. ولا جديد إذا قلنا إنّ السينما التركية عاشت فترة سبات دامت سنوات، مع أنّ ازدهارها كان خلال فترة السبعينات والثمانيات من القرن الماضي إلاّ أنّها شهدت تطوّرا كبيرا خلال العقدين الماضيين وأشهر مثال على تطوّرها الأفلام الطموحة التي طرقت أبواب النجومية، وقال المنتج التركي سلجوق كوبانوغلو إنّ التنوّع والابتكار كانا السمة الظاهرة البارزة في السينما التركية خلال السنوات الأخيرة الماضية ما أدى إلى الارتقاء بها إلى أعلى المستويات. وأضاف كوبانوغلو الذي أنتج مسلسل ''انفصال'' الشهير وعددا من الأفلام التي حقّقت نجاحا كبيرا داخل تركيا وفي العالم العربي أنّ السينما التركية حقّقت لنفسها بصمة وهوية من خلال تميّزها من الناحية الفنية والتقنية وأصبحت الأفلام تحصد الجوائز بالمهرجانات السينمائية العالمية، وأشار إلى الأفلام التركية التي حقّقت شهرة واسعة داخل تركيا وخارجها حيث يأتي فيلم ''وادي الذئاب.. العراق'' في مقدّمة القائمة إذ لم يسبق في تاريخ السينما التركية أن حظي فيلم تركي بكل هذه الشهرة، وأوضح أنّ هذا الفيلم الذي عرض قبل أكثر من عامين حطّم الأرقام القياسية منذ اليوم الأوّل لدخوله صالات العرض وربح عشرة ملايين أورو في أوّل شهرين.فيما تعدّدت موضوعات الأفلام التركية وتنوّعت مضامينها بين بيئية واجتماعية وذاتية وعاطفية، كاشفة التفاصيل الحقيقية لصورة تركيا بعين مخرجيها، ولعلّ المخرج سنان تشين يعتبر من أشهرهم حيث استطاع أن ينوّع في أفلامه من الدراما الاجتماعية إلى التيار السائد في تركيا ليرتقي بمستوى السينما التركية التي يمتد تاريخها إلى أكثر من 100 عام مرت خلالها بمراحل عدّة كانت في بعضها انعكاسا حقيقيا لأوضاع المجتمع ورصدا نقديا لتحوّلاته معتمدة على التقليد والتشويق والإثارة مستعينة بالأنماط السينمائية الحديثة في أوروبا وأمريكا، وأدرك هذا المخرج وغيره من المخرجين والمنتجين الأتراك ثراء الموروث القصصي الذي تزخر به مختلف مكونات المجتمع التركي سواء من الناحية الجغرافية أو التاريخية، واستطاع مسلسل ''نور'' الذي عرض على عدد كبير من القنوات العربية منافسة الدراما العربية بل التفوّق عليها للشعبية الهائلة التي حاز عليها بين مختلف الطبقات الاجتماعية. ودخلت السينما التركية التاريخ منتصف عام 1866 أي بعد فترة قصيرة من أوّل عرض في باريس على يد الإخوة لوميير، وقد استمر عرض المشاهد السينمائية في اسطنبول حتى عام 1908 بعد إنشاء أول دار عرض سينمائية، وجاءت ولادة السينما التركية بشكل واضح عندما تّم تأسيس قسم لشؤون السينما عام 1915 تحت مسمى ''الجمعية الرسمية للمحاربين القدامى'' ومهمتها تحفيز المشاعر الوطنية للجيش التركي وتمّ تصوير العديد من الأفلام السينمائية عن حرب البلقان وتم إنتاج أفلام قصيرة بإدارة المخرج أحمد فهيم عام 1919 بينما ظهرت السينما الروائية عام 1917 مع فيلمي ''الجاسوس'' و''الضائعة'' للمخرج سيدات سيمافي ثم توالت الأفلام. إلاّ أنّ نقطة التحوّل للسينما التركية كانت عام 1922 عندما أسس محسن أرطغرول أوّل شركة إنتاج سينمائية خاصة بعد دراسته لفن السينما في ألمانيا وأنتج أول فيلم باسم ''قميص من النار'' للمخرجة خالدة أديب أديفار، وتبلورت السينما الوطنية التركية من خلال تأسيس أوّل ناد للسينما بتركيا عام 1964 حمل عنوان ''نادي سينما الجامعة'' حيث برز نشاط جديد في السينما التركية مع ظهور مخرجين جدد مثل متين أركصان وخالد رفيغ وأرتم غوريج ودويغو صاغر أوغلو ونوزاد باسان وممدوح أون إذ قدّم هؤلاء أفلاما دارت حول شجون وهموم المجتمع وحظيت بنجاح واسع.وشهد قطاع السينما والقطاع السمعي والبصري بعد عام 1980 نهوضا واضحا في تركيا مع تغيّر المعطيات والانفتاح وبروز جيل جديد من المخرجين الشباب إلى جانب الجيل الذي يمثّل الفترة السابقة كما نشطّت خلال فترة الثمانينات السينما التجارية التي تروي القصص العاطفية والتي تركّز في معظمها على ابن القرية الأناضولية الذي لا يقبل الضيم وصاحب عزّة النفس مثل أفلام المطرب التركي الشهير إبراهيم تاتليسيس وبموازاة ذلك ظهرت أفلام القوة الأسطورية المتخيلة والمتمثّلة بالأفلام التي كان يؤدي بطولتها جنيد أركان. وبعد سقوط ''يشيل تشام'' أو هوليوود التركية في منتصف الثمانينات من القرن الماضي هذا المارد السينمائي الجبّار الذي كان يصنع سنويا في فترة الستينيات والسبعينيات نحو 300 فيلم لأهمّ مخرجي تلك الفترة من أمثال يلماز غوناي وعاطف يلماز ودرويش زعيم ويشيم أوغلو وونوري بيلجي جيلان عادت السينما لتفض الغبار عنها من جديد لترفرف بتاريخها الحافل وطموحها الذي لا ينتهي من خلال تطرقها لموضوعات شائكة وحساسة كالأقليات العرقية والدينية وحتى حياة كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية الحديثة التي كانت خطا أحمر لا يسهل تجاوزه. واحتلت الأفلام التركية في عام 2008 المراتب العشرة الأولى في شباك التذاكر التركي على حساب أفلام هوليوود الأمريكية-.