رشيد بليل، باحث في علم الاجتماع ومتحصل على دكتواره موضوع ''التغيّر الاجتماعي''، يعمل حاليا كباحث دائم في المركز الوطني للبحث في علم ما قبل التاريخ والإنسان والتاريخ، كما درّس أيضا في عدة جامعات فرنسية.''المساء'' التقت ببليل، الذي احتك بالتوارق وعمل كثيرا على تراث أهليل القورارة، والذي صنف لاحقا في قائمة اليونسكو للتراث غير المادي، وطرحت عليه العديد من الأسئلة حول التوارق وتراث أهليل وأيضا عن المشروع الوطني لجرد التراث الثقافي اللامادي. عندما أحّب بليل تمنراست عاد بنا رشيد بليل إلى الأيام الأولى التي اكتشف فيها تمنراست، فكانت في عهد الجامعة حينما تنقل رفقة طلبة آخرين من قسم الاجتماع لجامعة الجزائر، وتحت تأطير أساتذة إلى عاصمة الأهقار في إطار سفريات، بحيث كانت تنظّم من طرف الجامعة بغرض تعويد الطلبة على العمل الميداني. وأحّب رشيد سريعا تمنراست إلى درجة طلبه من أساتذته رفقة طالبين آخرين المكوث أكثر فيها وكان له ذلك، وعندما عاد إلى العاصمة، كتب بحثه عن عاصمة الأهقار ومن ثم واصل دراسته بالجامعة، لينتقل إلى أداء الخدمة العسكرية لتكون المحطة الموالية .....تمنراست طبعا. وفي هذا السياق، قال رشيد: ''عدت إلى تمنراست سنة 1975 بعد أن تم تصنيفها كولاية، وهذا بعد أن كانت تابعة لولاية ورقلة، حيث أردت إكمال دراستي والظفر بشهادة الدكتوراه ومن ثم اشتغلت بالمنطقة، ولكنني تعرضت لصعوبات بفعل الوضعية الجديدة التي تعيشها المنطقة، لهذا عدت إلى العاصمة وقدمت الدكتوراه حول موضوع ''التغير الاجتماعي''. وواصل بليل مساره البحثي، حيث التحق بالمركز الوطني للبحث في علوم ما قبل التاريخ والإنسان والتاريخ والذي كان يرأسه المرحوم مولود معمري، ولكن ألا يقال أن من يذهب إلى تمنراست عليه أن يعود إليها؟ وهو ما حدث لصاحبنا حيث أراد تحضير مذكرة حول توارق الأهقار، فالتحق بفرقة تضم خبراء جزائريين وفرنسيين بقيادة الباحث مارسو غاست، الذي كان يهتم كثيرا بالتوارق. وفي هذا السياق قال بليل: ''كنت أسافر من حين إلى آخر إلى تمنراست، ولكنني تعرضت مرة أخرى إلى صعوبات في التنقل هذه المرة، وهذا بفعل شساعة مساحة الأهقار الكبيرة جدا، فلم يكن ديوان الحظيرة الوطنية للأهقار قد تأسس آنذاك، فكان الانتقال على مسافة مائتي كيلومتر يستغرق انتظار أسبوع أو أسبوعين. اكتشاف أهليل وبفعل هذه العراقيل التي واجهت رشيد، توجه هذا الأخير إلى تيميمون وبتوجيه من مولود معمري الذي عمل كثيرا في هذه المنطقة وكتب عن تراثها اللامادي المتمثل في ''أهليل قورارة''، بعدها عاد إلى تمنراست وهذا في سنة 1982 وعمل أشهرا عديدة هناك، ليغادر المنطقة ويعود إليها مجددا بعد عشرين سنة من الغياب، ومن ثم يتركها مرة أخرى ويعود إليها مجددا أيضا في إطار تنسيقه للمشروع الوطني لجرد التراث غير المادي. وعن تراث أهليل القورارة، المصنف ضمن قائمة اليونسكو للتراث غير المادي، يقول صاحبنا الذي كان من بين أحد أهم الباحثين في هذا التراث، والذين استطاعوا عبر بحوثهم النيّرة الفوز بمقعد لهذا التراث في اليونسكو، أن مولود معمري هو الذي بدأ في التعريف بهذا التراث، حيث كتب كتابا عن هذا الأمر سنة ,1985 بينما عمل في تلك المنطقة منذ سنوات السبعينات. ويضيف محدثنا أن هذا التراث تعرض لضربات كثيرة من مد العصرنة وظروف اجتماعية أخرى، مثل الاختلاط الذي حدث بين سكان المنطقة والوافدين للعيش فيها، والذي جعل النسوة اللائي يؤدين هذا النوع من الفن يمارسنه داخل البيوت، فكاد الاهليل أن يزول حتى أنه لم يعد ممارسة يفتخر بها سكان المنطقة إلى حين تسجيله في اليونسكو، وتنظيم مهرجان عنه فعادت إليه دينامكيته وأصبح من جديد تراثا يعتز به الجميع. التوارق، بين الأمس واليوم بالمقابل، تناول بليل في حديثه مع ''المساء'' العديد من النقاط المتعلقة بالتوارق وبالأخص توارق الأهقار، والبداية من سنوات السبعينات، حيث حدث جفاف كبير في الصحراء فسكن الكثير من البدو الرحل من التوارق المدينة وكذا مناطق أخرى مثل يدلس وتازورت، حتى توارق المالي والنيجر استقروا بتمنراست، فبدأت معالم التمّدن تظهر عند الرحل الذين تخلوا عن خيامهم لصالح المساكن المبنية من الطوب، ورغم ذلك-يضيف المتحدث-حافظ البدو على علاقتهم بالصحراء. وقال بليل، أنه لم تكن هناك حدود سياسية بين التوارق الذين يعيشون في جنوب ليبيا والطاسيلي ناجر بجانت والاهقار بالجزائر وشماليّ المالي والنيجر، كما أنهم لم يكونوا مختلفين في طباعهم وطبقاتهم الاجتماعية، لكنهم تحولوا إلى وحدات سياسية أي أصبحت بينهم حدود غير رسمية يعترفون بها ويحترمونها. وتغيّرت أوضاع التوارق بدخول الاستعمار الفرنسي منطقة تمنراست سنة 1902وجانت سنة ,1912 حيث غادر البعض منهم هذه المناطق، حتى أن البعض منهم مثل توارق منطقة سيلات رحلوا إلى تامسنة في شمال النيجر ولم يعودوا إلى الديار إلا بعد الاستقلال. وهل استطاع بليل أن يندمج في عالم التوارق وهو الذي احتك بهم في سفرياته الكثيرة إلى تمنراست؟ ويجيب رشيد أنه مكث فترات مختلفة مع التوارق، مضيفا أنه لكي يتقبلك المجتمع الترقي، يجب أن تحترمه وإلا لما استطعت أبدا أن تنسج أي علاقة مع أي عضو منه، كما أكد ضرورة تكيّفه مع المجتمع الترقي لأنه هو الذي انتقل إليهم وليس العكس. وكان عليه بحكم أنه باحث في علم الاجتماع، أن يندمج معهم وفي هذا يقول: ''ليس من السهل أن تعيش عيشة التوارق، نظرا لخصوصية تقاليدهم وعاداتهم، فحتى غذائهم مختلف عن غذائنا، حيث أنه يعتمد بنسبة كبيرة على الحليب وفيه القليل جدا من اللحم، لهذا ستشعر حتما بوهن كبير لو مكثت فترة طويلة هناك، أيضا طريقة تعامل التوارق مع الوقت مختلفة كثيرا بالنسبة لنا نحن سكان الشمال، فعندما تكون في الصحراء ذات المساحة الشاسعة ستشعر بفقدانك لمعالمك، لهذا ليس من السهل التكيف مع كل هذه المتغيرات''. واعتبر بليل أن حياة التوارق البعيدة عن ضغوطات المدن، ساحرة حقا وفي هذا يقول: ''هناك من يعشق حياة التوارق، وأقصد البدو منهم بحكم أنها حياة تمليها الحرية ويعتريها الهدوء، إلا أن هناك من الناس من يعتبر أن هذه الحياة غير مريحة ولا يستطيع التكيف معها''، بالمقابل، مكث بليل مع التوارق فترات متقطعة بلغ أقصاها مدة ستة أشهر، وقال أنه تكيف معها إلا أنه كشف استحالة العيش على طريقة البدو طيلة الحياة. وصدر عن صاحبنا كتاب ''تغيّر مجتمع التوارق'' سنة ,2009 كما درّس في جامعة فرنسية، حيث قدم العديد من الدروس وفي مقدمتها درس حول توارق الجزائر والمالي والنيجر، حيث تطرق في درسه هذا إلى انثربولوجية وثقافة وتقاليد التوارق، بالإضافة إلى نظامهم الإجتماعي وهذا منذ أصل التوارق إلى الفترة الاستعمارية وحتى بعد الاستقلال. الإسلام في التوارق وارتباطه بتقاليد المنطقة وعن ارتباط الإسلام بتقاليد التوارق، يقول محدثنا أن ''الكثير من الباحثين يقولون أن الدين الإسلامي هو دين مدينة، وسأعطي مثالا عن ذلك بصلاة الجمعة التي تتطلب تجميع رجال منطقة ما للصلاة، وهو ما كان عسيرا على التوارق البدو الذين يعيشون متباعدين كثيرا عن بعضهم البعض، أيضا قضية الميراث عند المرأة فقد كانت مختلفة عن تعاليم الدين الإسلامي، ولكن تغيرت الأمور مع تمدن التوارق، ويمكن لي أن أقول أن تعاليم الإسلام تغلبت على عدد من تقاليد التوارق''. التراث اللامادي للتوارق في خطر بالمقابل، أشار المنسّق حول المشروع الوطني لجرد التراث غير المادي الذي ستنطلق فعالياته قريبا، بأنه لاحظ من خلال هذه العملية فقدان الكثير، فأطفال التوارق كنظرائهم من أطفال المناطق الأخرى من الجزائر يذهبون إلى المدرسة ويتعلمون اللغة العربية ولا يهتمون بثقافتهم مثل السابق، مضيفا أن طفل ترقي مولود بمدينة تمنراست لا يعرف أسماء الوديان مثلا، ولو وضع في قلب الصحراء سيضيع حتما، أما عن اللغة الترقية فلم يعد يتقنها الكثير من أطفال المنطقة، وهو ما يعتبره بليل بخسارة كبيرة. وفي هذا الصدد، تحسر بليل عن ضياع الكثير من التقاليد الشفهية والتراث اللامادي مثل الشعر والأساطير والقصة، مستطردا أنه حتى وضعية المرأة الترقية تغيرّت، فبعدما كانت تحضر الخيمة عند زواجها أصبحت مهمة توفير السكن من مهام الرجل، لهذا تغيرت الكثير من تقاليد المنطقة. ولكن كيف تتم عملية جرد للتراث الثقافي غير المادي في منطقة كبيرة مثل تمنراست، يجيب بليل أن هذه العملية ستستغرق سنوات من العمل، وسيتم الاستعانة فيها بباحثين في هذا المجال وبالطلبة وبأطراف أخرى، معتبرا أن فرصة تواجده بالطبعة الثانية للمهرجان الدولي لفنون الأهقار، كانت فرصة له للالتقاء بأبناء المنطقة للانطلاق في هذه العملية في تمنراست.