تعد قاعات الانتظار عند الطبيب والعيادات والمستشفيات والمراكز الصحية من أكثر الفضاءات التي تحبذها النساء للحديث عن كل شيء وأي شيء، وليس غريبا إن قلنا إن هذه الفضاءات يمكن الاطلاع فيها على كل المستجدات على الصعيد الوطني والدولي، ناهيك عن السير الذاتية للأطباء، وأعراض مختلف الأمراض وطرق علاجها، ووصفات لمحبات الطبخ، دون أن ننسى المشاكل اليومية وحتى الشخصية، وعناوين المخابر وأسعار خدماتها. إن أخذ موعد عند الطبيب، أصبح بمثابة أخذ موعد مع الأحاديث النسوية التي تشمل كل شيء، لدرجة أنها تتحول أحيانا إلى مصدر إزعاج لمحبات الهدوء اللواتي يجدن أنفسهن معنيات بالحديث ولو عنوة، فلا مجال للهروب من ثرثرة النساء لاسيما وأن مدة انتظار الطبيب قد تصل أحيانا إلى ساعتين أو ثلاث ساعات. ولم تشذ زيارتنا الأخيرة للطبيب عن هذه القاعدة، فبمجرد وضع أولى الخطوات في قاعة الانتظار وإلقاء السلام على الحاضرات، نبدأ الاستماع إلى ألف حديث وحديث، والغريب في الأمر أنه عادة ما تكون إحدى المريضات هي الأكثر ثرثرة، وكأنها قائدة جلسة القيل والقال... فتراها تطرح المواضيع واحدا تلو الآخر وتقفز بين حديث وآخر، والأخريات يتبعنها بردود الأفعال. ويحتار المرء فعلا من ظاهرة ''القفز'' بين المواضيع المطروحة لدرجة الإصابة بصداع، خاصة عندما يتم طرح النقاش عن مواضيع تافهة أو شخصية لا تهم الآخرين، كما نندهش من سبب إثارة مسائل جد خاصة أمام نساء غريبات. وعادة ما يفتح النقاش بالشكوى من طول الانتظار ومن عدم وصول الطبيب بعد، وتبدأ إحداهن بسرد انتظاراتها السابقة لنفس الاختصاصي الذي قد يكون معروفا بتأخيره المستمر، وليس غريبا أن نجد أن بعض النسوة يملكن سيرة ذاتية مفصلة للأخصائي، وهو بالنسبة للمريضة الجديدة فرصة من ذهب لمعرفة شخصية الطبيب الذي ستعالج عنده.. فربما يطمئن قلبها! ويمكن أن نفسر كثرة القيل والقال في قاعات الانتظار بحالة القلق التي تستبد بالنساء اللواتي يفضلن في أغلب الأحيان الحضور باكرا من أجل الانصراف باكرا لأشغالهن، فيجدن أنفسهن محاصرات لنصف يوم من الانتظار، بينما تنتظرهن مهام كثيرة بالبيت وبالعمل وخارجهما، وطبعا لاتخلو أحاديثهن من الشكوى من بعض الممارسات التي يمكن القول إننا تعودنا عليها، والمتعلقة بتفضيل بعض المريضات في إطار ما يسمى ب''المعريفة'' وسط الممرضات اللواتي يسبقن بعض معارفهن في الدخول إلى الطبيب، وهو ما دفع إحداهن إلى القول ''يبدو أننا لسنا كلنا أبناء تسعة أشهر، نحن أبناء عشرة أشهر لذا يمكننا الصبر أكثر من الأخريات''، وهو القول الذي ساندتها فيه أغلب النسوة الحاضرات. وتزداد حدة القلق حين تصحب السيدة أحد أبنائها، ففي هذه الحالة نجدها تصبر نفسها وأبناءها من طول الانتظار، وهنا بالذات يتحول الابن أو البنت إلى مصدر أحاديث كثيرة تشغل المنتظرات. فتتطوع بعضهن لمراقبة تحركاته، حتى لايخرج من القاعة أو حتى لا يدخل إلى الشرفة، ثم تبدأ التعاليق عن تربية الأبناء ومرضهم، ويصبح الطفل ''نجما ظرفيا'' لأنه يتصرف ببراءة وقد يكون مصدر ضحك تبحث عنه السيدات لإزالة حالة التوتر التي يعشنها. وإذا كانت المشاكل الشخصية وطرق تربية الأطفال ووصفات الطبخ جزءا ''قارّاً'' من أحاديث النسوة في قاعات الانتظار، فإن الأحداث الوطنية والدولية هي الأخرى حاضرة بقوة. وفي موعدنا الأخير عند الطبيب، كانت أهم الأحداث المطروحة للنقاش، إضراب الطلبة وعطلة التلاميذ، حيث عبرت الأمهات عن امتعاضهن من الإضرابات المتواصلة في الجامعات، مشيرات إلى أن الطلبة في آخر المطاف فقدوا عاما من الدراسة. ولم تتوان بعضهن من صب غضبهن على الطلبة واعتبار أن حركاتهم الاحتجاجية غير مقبولة، وأنه ''دلع طلابي'' مشيرات إلى أن الجزائر هي البلد الوحيد الذي يتيح الدراسة لابنائه بالمجان مع توفير النقل والإيواء والأكل بأسعار رمزية تضاف إليها المنحة الدراسية... دون التعمق في المشاكل البيداغوجية التي يعانون منها، ربما لغياب طالبة ضمن المنتظرات التي قد تدلي بدلوها. ومع الحديث عن الطلبة، توالت أحاديث أخرى عن ''الحرقة'' و''التسول'' - وعنه سردت النساء حكايات تبدو خيالية عن استغلال أطفال الغير للتسول -، والهاتف النقال والانترنت...الخ ولم تغب الأوضاع في ليبيا عن حديث القاعة، حيث أصرت ''قائدة جوق الأحاديث'' وهي سيدة في الأربعين من عمرها على التأكيد أن الجزائر في وضع جيد، وأنه لامجال لأن تكون مسرحا لأحداث مشابهة لتلك التي تعيشها ليبيا أو غيرها من البلدان. وبعد مرور وقت قصير، يتغير الحديث ب180 درجة ليقفز إلى المسائل الشخصية، فلا تتردد إحدى السيدات في سرد حياتها الأسرية على الأخريات، مشيرة إلى أن زوجها تركها منذ عشر سنين وذهب إلى فرنسا للعيش مع أسرته، وهي الآن تتحمل مسؤولية أبنائها... وطبعا تتوالى التعليقات والآراء ردا على ما جاء في كلام المرأة. في هذا الخضم كله قليلات هن اللواتي يفضلن لغة الصمت، ويستمعن مكرهات لكل هذه الأحاديث التي تعد مرآة عاكسة لمجتمع فيه نقص حاد في فضاءات الحوار، مما يجعل النساء خصوصا يبحثن عن أماكن للبوح عن مكنوناتهن، رغم ما في ذلك من إزعاج لأخريات لايجدن متعة في الاستماع لما لايعنيهن، فيتمنين من قلوبهن أن يأتي الطبيب سريعا، وقد يتخلين عن مكانهن ويفضلن الوقوف في الممر لتجنب ''أحاديث القاعة''.