خيّم السكون على قاعة ''الأطلس'' سهرة أوّل أمس، ودخل الساهرون في طقوس صوفية متميّزة صنعتها فرقة ''الإخوة الدراويش'' للرقص الصوفي، القادمة من الأناضول لتدلي بدلوها في تظاهرة ''تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية''، فكانت سهرة سمت فيها الروح وعظّم فيها اسم الخالق، وذكر مناقب خير الأنام. من نوقيا التركية، حيث ضريح مولانا جلال الدين الرومي، قدمت فرقة الإخوة الدراويش للرقص الصوفي وحلّت ضيفة على الجزائر وقدّمت عرضين، الأوّل كان بتلمسان والثاني بقاعة ''الأطلس''، واستقطب عرضها عددا كبيرا من الجالية التركية بالجزائر وكذا محبي الموسيقى الصوفية الذين اكتظّت بهم القاعة، بمناسبة الأيام الثقافية التركية المدرجة في إطار الإحتفالية الثقافية الإسلامية. ساعتان من الزمن كان عمر هذا الحفل الذي حضرته وزيرة الثقافة السيدة خليدة تومي وسعادة سفير جمهورية تركيا بالجزائر السيد أحمت نجاتي بقالي الطي، عبّر عن مدى سعادته بمشاركة بلده في هذه التظاهرة الثقافية وكذا امتنانه للدولة الجزائرية على حفاوة الإستقبال التي حظي بها الوفد التركي، متمنيا أن يمنح العرض هذا للحضور ''روحانية الرومي". بداية الحفل كانت مع فرقة السماع الصوفي بقيادة الأستاذ يوسف قية، التي قدّمت وصلة من ثلاثين دقيقة، فأبدع فرسانها الثلاث عشرة في العزف والأداء، مستعينين في ذلك بالعود، القانون، الناي والربابة، فاسحين المجال لأصواتهم لمناجاة الخالق والولوج إلى عوالم روحية راقية، توحّد اللّه وتبعث في نفس المستمع السكينة والهدوء. وصلة السماع الصوفي للإخوة الدراويش كانت راقية على مختلف الأصعدة، حيث قدّمت خلاله وصلات صوفية هي عبارة عن ابتهالات دينية للتقرّب من الله، جعلت الحضور يسافرون عبر الأزمنة فوق بساط منسوج من أصوات أعضاء الفرقة، التي حاكت أجمل الكلمات بنبرات متباينة وإيقاعات متفاوتة، حتى وإن اختلفت اللغة. وبعد هذه الوصلة، ترك المجال للأستاذ مصطفى تافوت جوك أوغلي ليقدّم نبذة عن فرقة الإخوة الدراويش وكيف تستمد مبادئها من فكر مولانا جلال الدين الرومي، ليخيّم بعد ذلك السكون على القاعة ويعمّ الهدوء إيذانا ببداية الإبحار في عالم الدراويش، حيث تابع الحضورأداء الفرقة المؤلّفة من سبعة راقصين، إضافة إلى ثلاثة عازفين على الطبل والناي وآلة القانون الموسيقية، ومغن بدا كأنّه المرشد الروحي للفرقة. ويمضي المغني، مرشد الفرقة، دقائق طويلة وهو يتمتم باللغة التركية، ويرتدي الراقصون الصوفيون طرابيش تركية تقليدية إضافة إلى زيّ أبيض، وتبقى الطرابيش ثابتة على رؤوسهم رغم حركات الدوران الطويلة التي يؤدّونها، وبعد قليل يتمايل الدراويش ببطء مع الموسيقى، وأعينهم مغلقة يبدءون بإمالة رؤوسهم ببطء من جانب لآخر، وحالما تبدأ وتيرة الموسيقى بالارتفاع، تبدأ حركتهم بالزيادة المطردة ويلفت الراقصون الأنظار حين يبدأون بالدوران، ويمضون كامل فقرتهم في الدوران مع تعبيرات المغني الدينية. يكون الدوران عكس اتجاه عقارب الساعة، وتكون سرعة الدوران بطيئة نسبيا لمدة 15 دقيقه أو ما إلى ذلك، يبدأ بعدها الراقص في زيادة سرعته إلى حدّ معيّن، وتثبيتها لمدة 30 دقيقه أو نحوها، يبدأ بعدها الراقص في تخفيض سرعته تدريجيا خلال 15 دقيقه أخرى ضرورية، وتزداد مدّة تخفيض السرعة بازدياد مدة الدوران، فقط لمحاولة تكييف جهاز الإتزان المعقد على سرعة الجسم ومنع سقوطه، أو حتى ظهورأعراض أخرى كالغثيان أو الدوار أو أي ظواهر بصرية أخرى غير مرغوبة. وتعدّ هذه الطريقة الصوفية ''الدوران الراقص'' الأكثر شهرة وانتشارا في تركيا، تأسّست على يد صلاح الدين ميفلانا رومي في العام ,1273 وتتبع معظم الفرق الصوفية في تركيا هذه الطريقة، ويعتبر الدوران بحركة سريعة من أدبيات الفرقة وهو واحدة من الطرق التي يتبعها الصوفيون للتقرب من الله، ويقدّم الدراويش عروضهم بالقرب من متحف ميفليفي في مدينة قونيا، خلال مهرجان سنوي يعدّ الأضخم في تركيا. وللإشارة، فإنّ الرقص الصوفي متّصل بفكرة حركة الجسم الإيقاعية كنوع من التسبيح بحمد الله. يمثّل الرقص عند الصوفي ما يمثّله قبول باطنه اللاوعي للعبور إليه ''تسبيح وابتهال الروح في موجتها البعيدة.. والشفافة''، كما يعدّ ذاكرة النفس المضيئة، لأنّه ليس مجموعة حركات تمّ ضبطها وتنظيمها من الخارج، بل هي مرتبطة بفاعلية الكائن الأسمى، وهو يؤكّد على تلاحم وتفاعل كلّ المعاني المؤكّدة لإنسانية الإنسان ماضيا وحاضرا ومستقبلا، إلى جانب كونه محاولة حماية الجسد وتحصينه وتطهيره والوصول به إلى التطهير من كلّ ما هو مادي يغلق على النفس. والمولوين هم أوّل من أدخل الموسيقى والرقص كفن منتظم في حفلات الغناء والسماع الصوفي، بقدرة عجيبة في أداء تلك الطقوس، التي تبدأ بالتفافهم على شكل حلقة كبيرة لابسين ال''لبدة''، وهي قبعات طويلة يسمونها ''الكلاه'' يلبسون الأبيض عادة وينتعلون نعالان من الجلد، ويرتكز الدوران عند المولوي المتمرّس على إبهام قدمه، وتزداد سرعته بخفوة حتى تنفتح تنورته، ويرافق هذا الدوران أنغام جميلة على الناي، وهم يردّدون بصوت واحد بعض الأذكار . كما اشتهرت الطريقة المولوية بما يعرف بالرقص الدائري لمدّة ساعات طويلة، يدور الراقصون حول مركز الدائرة التي يقف فيها الشيخ، ويندمجون في مشاعر روحية سامية ترقى بنفوسهم إلى مرتبة الصفاء الروحي، فيتخلّصون من المشاعر النفسانية ويستغرقون في وجد كامل يبعدهم عن العالم المادي ويأخذهم إلى الوجود الإلهي كما يرون. اشتهرت الطريقة المولوية بالنغم الموسيقى عن طريق الناي، حيث تعتبر وسيلة للجذب الإلهي، وأكثر الآلات الموسيقية ارتباطا بعازفه، ويشبّه أنينه بأنين الإنسان للحنين إلى الرجوع إلى أصله السماوي في عالم الأزل.