رسمت جلسات المشاورات السياسية التي أجرتها الهيئة الوطنية المنصبة من قبل رئيس الجمهورية على مدار شهر كامل مع مختلف التشكيلات السياسية والتنظيمات الاقتصادية والاجتماعية والمهنية وكذا الشخصيات الوطنية التي لبت الدعوة، الخطوط العريضة للمنهج الذي سيتبعه مسار الإصلاحات السياسية في البلاد، حيث ارتكزت اقتراحات غالبية المشاركين على ضرورة إجراء تعديلات معمقة على الدستور وإيجاد آليات كفيلة بفرض تطبيق القوانين، وأهم من ذلك كله التأكيد على ضرورة إشراك جميع الآراء والرؤى المعبر عنها في المجتمع في تجسيد هذه الإصلاحات. ولعل المتتبع لسير جلسات المشاورات التي أشرفت عليها الهيئة الوطنية التي قادها السيد عبد القادر بن صالح رئيس الهيئة بمساعدة كل من الجنرال المتقاعد محمد تواتي ومحمد علي بوغازي مستشار رئيس الجمهورية، يلاحظ الاختلاف المسجل في الانطباع السائد حول مصداقية هذا المسعى بين مرحلتي انطلاقه ونهايته، حيث تمكنت هذه الجلسات التي جوبهت في البداية بخطاب ''تهكمي'' ساقته الأطراف التي أقصت نفسها من المسعى بإعلانها المبكر عن مقاطعتها له، وحكمها عليه ب''الموت قبل ولادته''، من تأكيد جديتها ومصداقيتها، سواء من خلال ما اقترحته من فضاء مفتوح، حاضن لمختلف الآراء والأفكار وجامع لكل الفعاليات السياسية والاجتماعية والعلمية والدينية والثقافية والرياضية في المجتمع، أو من خلال نوعية المشاركين فيها وثراء الأفكار التي تم استعراضها خلال هذه الجلسات. كما ساهمت الصراحة الكبيرة التي طبعت النقاشات التي جمعت الهيئة الوطنية للمشاورات مع مدعويها في صناعة مصداقية وجدية هذا المسعى، الذي كشف عما وصفه البعض بالمفاجآت في طرح بعض الشخصيات، التي رغم قربها من السلطة، إلا أنها تبنت اقتراحات قريبة في مضمونها إلى مطالب المعارضة السياسية، وذلك من منطلق مراعاة أهمية وجدية المرحلة المستقبلية لبناء الدولة، التي يراد لها أن تكون تتويجا لكل المكاسب التي تحققت خلال العقدين الأخيرين في مجال تقويم الدولة وإعادة بنائها على أسس الحق والقانون، وبمشاركة جميع أبنائها. حتى أن بعض المصادر تتحدث عن أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة يسعى شخصيا إلى كسب إسهام الشخصيات الوطنية التي لم تشارك في المشاورات على غرار الرؤساء السابقين للبلاد، في مسعى الإصلاحات من أجل رسم الطريق الصحيح نحو المستقبل. وتبرز أهمية مشاركة جميع أطياف المجتمع الجزائري في مسعى الإصلاحات المعلن عنها، عن المشاورات في حد ذاتها من خلال مداخلات واقتراحات عدد من المشاركين في هذه الأخيرة، وعلى رأسهم الأمين العام السابق لحزب جبهة التحرير الوطني السيد عبد الحميد مهري الذي شدد على ضرورة الحرص على الاستماع إلى جميع الآراء والأفكار دون إقصاء، مؤكدا أولوية حصول إجماع وطني حول الإصلاحات التي ستحدد مستقبل البلاد عن المضامين ذاتها والمحاور المقترحة في هذه الإصلاحات، وداعيا إلى ندوة وطنية تجتمع فيها كل الرؤى والأفكار، وهو المطلب نفسه الذي تبنته فعاليات أخرى شاركت في المشاورات على غرار بعض الأساتذة والمثقفين والباحثين الجامعيين. ولا تستبعد عدة أطراف تابعت سير جلسات المشاورات الوطنية، إمكانية لجوء رئيس الجمهورية إلى دعوة كافة الأطراف والفعاليات إلى ندوة وطنية تتوج جميع الرؤى والاقتراحات المعلن عنها في إطار هذه الاستشارة الوطنية، وذلك بالرغم من عدم تأكيد السيد بوغازي الناطق باسم هيئة المشاورات إمكانية اللجوء إلى هذا الخيار، حيث اكتفى بالتذكير بأن عمل الهيئة ينتهي بإعداد التقرير الشامل عن المشاورات وتسليمه للرئيس بوتفليقة، الذي يعود له قرار تحديد الآليات التي سيتم اتباعها بعد هذه المرحلة. ومهما قيل وكتب في تقييم عملية المشاورات السياسية التي تم تنظيمها من 21 ماي الماضي إلى 21 جوان الجاري، فإن هذه العملية استطاعت أن تثبت بأن كل شيء في الجزائر قابل للنقاش والحوار والاجتماع حول حله، لا سيما عندما يتعلق الأمر بمرحلة حاسمة ومصيرية تستهدف إعادة البناء والتجديد الوطني.