عدة تغييرات سلوكية اجتاحت المجتمع الجزائري منذ السنوات الأخيرة تعد الظواهر التبذيرية في المناسبات وغير المناسبات أهم عنوان لها، والغريب في الأمر أن هذه الحمى الانفاقية تزامنت مع التحولات الاقتصادية والأزمة الاقتصادية العالمية...وهذا التناقض يدعونا لنضع موضوع الإنفاق على المستوى الفردي للمواطن الجزائري الذي لا يلبث أن يشكو من غلاء المعيشة تحت المجهر. إثر الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم وألقت بظلالها على المجتمع الجزائري، تبدو الحاجة إلى وضع أسس اقتصادية لترشيد الإنفاق ماسة أكثر من أي وقت مضى، خاصة وأن العديد من المناسبات أصبحت تدعو للإنفاق ''الجنوني'' في مجتمعنا منذ أكثر من عقد، حيث تتلاشى بموجبها كافة الفوارق الاجتماعية بين الأثرياء والبسطاء. فالأجواء العامة تنبئ بوجود تسابق نحو حجز قاعات الحفلات لمجرد الاحتفال بعيد الميلاد أو النجاح في شهادة التعليم الابتدائي أو ازدياد مولود، فكل شيء صار يدعو للاحتفال والبهجة واستخدام الألعاب النارية التي يكاد يضاهي دويها دوي المتفجرات، حتى وإن كانت المناسبة لا تستدعي الاحتفال. كما أصبح أفراد المجتمع يتفنون في اتباع كل صرعة جديدة تظهر هنا وهناك، مثل الإستعانة بمنظم الحفلات الذي يتطلب مبلغا ماليا إضافيا لنفقات العرس، والالتزام بعادة ''العمارية'' التي تتولى من خلالها مجموعة من الرجال حمل العروس على كرسي فاخر والطواف بها في قاعة الحفلة مقابل مبلغ 15 ألف دج...وما إلى ذلك. والنتيجة العامة هي أن نسبة معتبرة من المواطنين تمارس عدة أشكال من الإسراف والإنفاق غير المتكافئ تماما ومستوى الدخل، ذلك أن حمى الاحتفالات تدفع إلى توفير الذبائح واستدعاء فرق موسيقية ومصورين، علاوة على حجز قاعات في فنادق وغيرها من الأمور التي تتطلب مقابلا ليس هينا بالنسبة للمواطن البسيط...ورغم ذلك، تغلغلت هذه الظواهر التبذيرية وسط مختلف الطبقات الاجتماعية إلى حد أن من لا يجاريها يسقط من السلم الاجتماعي. فتاة شابة (صانعة حلويات) تشارك في الموضوع لتدلي برأيها قائلة: ''الاحتفال بكل مناسبة كبيرة أو صغيرة مرض اجتماعي أخذ يتفشى بين الأسر البسيطة التي تتطلع لمنافسة المقتدرين ماليا وإعلان الفرح بصورة مبالغ فيها، من أجل تجنب الشعور بالنقص أمام الآخرين.. على هذا النحو تسري عدوى التقليد ولو على حساب الميزانية والمستوى المادي للأسرة." تروي السيدة ''نجوى.ي'' (معلمة) أنها حضرت منذ مدة حفلا نظمته شقيقة صديقتها الحميمة في قاعة للحفلات، حيث تم إحضار مطربين وتوزيع مختلف أصناف الحلويات على غرار حفلات الزفاف، وتم بالمقابل إنفاق500 ألف دج لمجرد الاحتفال بمولود جديد...وتستكمل حديثها ''صحيح أني لبيت الدعوة، لكن لا أفكر أبدا في تبديد مبلغ كهذا لمجرد الاحتفال بمولود جديد." وعن هذه الاحتفالات التفاخرية التي يتبارى فيها أصحابها لإظهار أوجه الرفاهية بعيدا عن البساطة والتواضع، يذكر السيد ''عماد.ت'' (مثقف) ل ''المساء'' أنه عاجز عن تحليل تلك المظاهر الاحتفالية التي اجتاحت الأسر البسيطة قبل الميسورة، والتي تدفع بالبعض إلى الاستدانة في خطوة تتعارض تماما والبساطة التي تتميز بها تقاليد المجتمع الجزائري، ليبقى السؤال ''لماذا''؟ في مطاردة مستمرة له تناقض أفرزته موجة ''اللوك" تعليقا على الظاهرة، يقول رئيس الفيدرالية الجزائرية للمستهلكين، زكي حريز، إن هذا الموضوع مهم جدا، ويمثل حديث الساعة في المجتمع الجزائري نظرا لما ينطوي عليه من تناقض كبير، فمن الشكوى من ضعف القدرة الشرائية إلى المبادرة للاحتفاء بمناسبات صغيرة بصفة غير مسبوقة. ويضيف، حتى النجاح في شهادة التعليم الابتدائي أصبح له حفله الخاص الذي يكلف بعض الأسر حوالي 50 ألف دج، وهذا سلوك غير معقول. هناك تغير ملفت في سلوكيات الفرد الجزائري الذي أضحى يركض وراء المظاهر بصفة مبالغة، حيث أن أمورا جوهرية تم إهمالها على حساب مسائل ثانوية، فالمواطن لا ينفق على الضروريات التي تساهم في الاستثمار في تربية الأبناء وتكوينهم بقدر ما ينفق على المناسبات غير المهمة...وهنا يتبادر السؤال: من الأهم الاحتفاء بشهادة التعليم الأساسي أم الإنفاق لتدعيم مستوى أبنائنا الذين تعاني نسبة معتبرة منهم من ضعف في اللغات الأجنبية؟...ومن الأجدى نفعا، شراء كتب مفيدة واقتطاف مبلغ شهري ليمارس الطفل التمارين الرياضية أم الاحتفالات بالمناسبات الصغيرة التي تخصم مبلغا معتبرا من الميزانية دون جني فائدة تذكر؟ يبدو أن الركض وراء ''اللوك'' -يتابع السيد زكي حريز- أنسى العديد من الجزائريين مسائل في غاية الأهمية، بصفة لا تدعو إلى الشك بأن هذا التقليد الاجتماعي مؤشر على غياب الثقافة الاستهلاكية السليمة في المجتمع الجزائري، حيث أن المستهلك غير الواعي يحرص على اتباع المظاهر والركض وراء آخر الصيحات في عالم الشكليات، عكس المستهلك الواعي الذي يجيد ترتيب الأولويات ويحرص على الاهتمام بالأهم دون غيره.
حالة تعويضية لسنوات الجمر ومن جانبها، تعتبر السيدة زهرة عمراني، خريجة كلية علم الاجتماع، أن المبادرة إلى الاحتفال بكل كبيرة وصغيرة إسقاط لحالة نفسية بالدرجة الأولى، ذلك أن الفرد الجزائري يسعى إلى التخلص من الكبت الذي عاشه خلال العشرية الحمراء، حيث كانت الأفراح تقام بدون بهرجة. وبرأي المتحدثة، فإن هذا التقليد الاجتماعي الذي يحمل العديد من المواطنين على خلق حالة السرور على حساب الميزانية المالية المتدهورة حالة تعويضية يتوخى منها إرواء عطش الأفراح، ما يجعلها مؤهلة للزوال مع مرور الوقت. لكن تنتقد الأخصائية الاجتماعية الظواهرالتبذيرية، منبهة إلى أن البحث عن أسباب الفرح لا يجب أن يصل إلى حد المبالغة وتكليف الميزانية المالية للأسرة بما لا طاقة لها به، في الوقت الذي لا يجد فيه بعض الناس ما يسد جوعهم، فهذا الإسراف يخل بالتوازن المالي للأسر والمجتمع ككل، ويتنافى ومبادئ الدين الإسلامي الذي ينهى عن التبذير والتباهي. وتشير السيدة زهرة عمراني إلى أننا بحاجة ماسة للعودة إلى قيم الدين الإسلامي الحنيف، التي تحث على عدم الإسراف وإنفاق المال في سبيل الخير، إذ يمكن تقديم الكثير من المساعدات للمحتاجين، ممن يفتقرون إلى أبسط الاحتياجات اليومية بدلا من التسابق في الاحتفاء بكل كبيرة