يعتبر كتاب ''التعذيب وممارسات الجيش الفرنسي أثناء ثورة التحرير الجزائرية'' لرافائيلا برانش، أحد أهم الكتب التي سلّطت الضوء على أساليب التعذيب المنتهجة من قبل الجيش الفرنسي أثناء ثورة التحرير الجزائرية، وقد أحدث الكتاب ضجة كبيرة وجدلا واسعا حينما صدرت طبعته الفرنسية عن منشورات ''غاليمار'' سنة2001م، وتعرّضت مؤلّفته لانتقادات لاذعة، كما شنّت حملات شعواء ضدّها من قبل اليمين الفرنسي المتطرّف، وذهب بعض المؤرّخين الفرنسيين إلى اتّهامها بالاعتماد على ''أرشيف مزوّر، وشهادات كاذبة هدفها الوحيد الحطّ من مكانة الجيش الفرنسي''. وقد صدر الكتاب حديثا في نسخته العربية في طبعة خاصة عن وزارة المجاهدين، وتولى ترجمته إلى اللغة العربية الأستاذ أحمد بن محمد بكلّي، ويعتبر هذا الكتاب مساهمة ثمينة تكشف النقاب عن ممارسات الجيش الاستعماري، وجرائمه المرتبكة في حق الأفراد والجماعات من أبناء الشعب الجزائري، وله أهمية بالغة فيما يتّصل بالمعلومات التي يقدّمها عن الإنتهاكات والجرائم المرتكبة إبّان الحقبة الاستعمارية في الجزائر، ويتبدى من توزيع مادته والمعلومات التي يعرضها أنّه يقدّم دراسة وافية عن جرائم الجيش الاستعماري الفرنسي. في المدخل، قدّمت المؤلّفة لمحة تاريخية عن الممارسات والقوانين الجائرة التي اعتمدها الفرنسيون منذ احتلال الجزائر سنة1830م، وأشارت إلى أنّ الفرنسيين أسّسوا مجتمعاً على قواعد جدّ جائرة واقعيا، إذ حصل سكان ينتمون إلى خليط بشري، على المواطنة الفرنسية التامة وبقرارات إدارية سخية، بينما أطلق على الآخرين تسمية دينية لا تتلاءم مع الوضع القانوني. وأشارت إلى أنّ كتابها هذا لا يتعرّض لذكر الجوانب الدولية للصراع، ولذكر منظمة الجيش السري، بل هو أكثر انحصارا، ويقتصر على موضوع محدد هو ''ممارسة التعذيب من قبل الجيش الفرنسي بين نوفمبر1954 ومارس1962م''، حيث اعتُبر التعذيب إبّان تلك الفترة وسيلة حرب وعنف مقصود، أريد به كسب الحرب، وفي ظلّ العلاقات غير المتكافئة التي أسّستها الأوضاع الكولونيالية، وُجد التعذيب ليُعمّر طويلاً، فهو تعبير مباشر وجسدي عن أوضاع تسودها علاقة قوّة اعتبرت عادية في نظر الإعلام. وذكرت رافائيلا برانش أنّ مكانة التعذيب تطوّرت طيلة ثمانية أعوام، وقد اتّخذ موقعه في أجوائها مع بقية أشكال العنف غير المشروعة، وذلك بفضل التسهيلات التي وفّرتها تدابير تشريع استثنائي، وبداية من سنة 1957م، ارتبط التعذيب بتصوّر جديد للحرب، وتحوّل ليصبح السلاح الأساسي في صراع كان يستهدف السكان الجزائريين بالدرجة الأولى. ولم يحدث وصول دوغول إلى السلطة قطيعة تذكر في تاريخ ممارسة التعذيب، فقد واصل الجنرال سالان، ثم الجنرال شال من بعده ترقية أساليب التعذيب والحرب ولم يكن هناك وضع أيّ حدّ بين المدنيين والعسكريين، فقد ظلّ التعذيب يشغل المكانة المركزية في أساليب الحرب. في المبحث الأول من الكتاب، والذي جاء تحت عنوان ''الأوجه الجديدة التي اتّخذتها الحرب 1954-1956م''، أكّدت المؤلّفة في رصدها للأوجه الجديدة التي اتّخذتها الحرب، على أنّ المصادر تعجّ بالشهادات على ممارسة التعذيب من قبل مصالح الاستخبارات، وقد تركت في الأرشيف الكثير من الأدلة المفصلة عن تصرفات بعض ضباط الاستخبار، وهناك الكثير من الروايات التي تمّ التصريح بها أثناء الحرب وكشفت عن تلك الممارسات. ولاحظت المؤلّفة أنّ أرشيف القوّات البرية لا يستعمل كلمة ''تعذيب''، فتعبير ''عضلي'' هو الأكثر انتشارا، والأكثر إيحاءً بتعرّض الضحية ''للضرب المبرح''، منه لأصناف من العنف الأكثر تفنّنا، وبهذا التعبير، تتمّ المساهمة في التهوين من الأفعال التي يشير إليها، في حين أنّ عبارة ''التعذيب'' تكتسي مظهرا من التنديد لا يرغب الجند في تحمّل المسؤولية، كما أنّ اختيار الكناية يحمل أيضاً دلالة على دوام لغة الحرب، وذكرت رافائيلا برانش أنّ المختصين في الاستخبار من درك وضباط الاستخبار، يفضّلون استعمال نعت ''الضغط''. ورأت المؤلّفة أنّ الترخيص بإطلاق النار قد فتح الباب واسعا للتجاوزات المشروعة، وقد أصبح استعمال عبارة ''هارب مقتول'' وسيلة عملية لتغطية اغتيالات عشوائية بغطاء المشروعية، فقتل الجزائريين منذ أوّل نوفمبر1954م لم يعد جريمة، بل واجبا على الجنود المدعوين إلى محاربتهم. تحت عنوان ''إقامة معايير جديدة من1957م إلى منتصف ماي 1958م''، استعرضت المؤلّفة العهد الجديد للحرب الذي بدأ مع الجنرال سالان ابتداءً من شهر ديسمبر1956م، وتمّ اختيار منهج قمعي شمل الجموع الغفيرة من المدنيين، حيث لم يعد هناك أيّ تمييز بين المدنيين والعسكريين، وقد اتّخذت الإجراءات القمعية للجنرال سالان وتيرة متزايدة ابتداءً من1957م، وكانت هناك قناعة مشتركة بين المسؤولين في أعلى المستويات بضرورة مواكبة التطوّرات الإستراتيجية والتكتيكية ابتداءً من سنة 1957م، واتّخذت في هذه المرحلة الهيكلة الإدارية والسياسية للوطنيين الجزائريين مكانة جديدة في الحرب، وكانت أوّل تعليمة تصدر من مسؤول الناحية العسكرية العاشرة، تؤكّد للقوات الفرنسية ضرورة تحقيق هدفين إبادة التجمّعات العسكرية، وتحطيم الهياكل السياسية لدى الخصم، وفي ظرف شهرين، تتابعت خمس تعليمات عامة أخرى تؤكّد على النقطتين، وقد وجّه الحاكم المدني المسؤول في الشرق الجزائري في شهر جوان1957م، تعليمة للعساكر الموجودين في عمالته، يذكرهم بالالتزام بالعمل على تحطيم المنظمة السياسية والإدارية، وتمّ التركيز من قبل القوات على المهمة ''المضادة للثورة''، حيث تسعى الإستراتيجية الجديدة إلى الحضور المتواصل للقوات الفرنسية في كافة التراب. وإلى جانب الأساليب الكلاسيكية التي اتّبعتها مصالح الاستخبار، لم يكن بعض ضبّاط الاستخبار يتردّدون في التنكيل والتعذيب الشديد الذي يصل إلى التصفية الجسدية للأشخاص المستنطقين، ومع بداية سنة1957م، تحوّلت العدالة إلى أداة حرب ثورية مضادة في خدمة الجيش، وأكّد سالان على ضرورة دفع الجيش إلى تسخير الوسائل المناسبة ذات الطابع الإداري والقضائي، بحيث تستجيب النصوص الإدارية والقانونية للحاجيات المعبّر عنها من قبل العسكر في الميدان أو التي تبيّنت الحاجة إليها عند الممارسة. وعن وسائل الاستنطاق المستخدمة من قبل الجيش الفرنسي، تقول المؤلّفة: ''كانت الوسائل المستعملة عنيفة؛ ضرب، كهرباء، صرخات، تهديد بالقتل بواسطة التلويح بمسدس، الهدف الوحيد هو حرمان الرجل من التفكير، حرمانه بكل الوسائل من استعادة لبه''. خصّصت المؤلّفة المبحث الثالث من الكتاب، للحديث عن المنعطف الذي وقع في شهر ماي 1958م في التاريخ السياسي الفرنسي، وأشارت إلى أنّ شؤون الجزائر لم تتسبّب في مجرد سقوط الحكومة، بل في حلول نظام جديد، وبعد أن أسهم الجيش في الإسراع بسقوط إحدى الجمهوريات، كانت هيمنته ثقيلة على الجمهورية الموالية طيلة الأشهر الأولى، وشجّعت قيادة الأركان تطوير هيكل لتنسيق عمل مختلف القوات النظامية التي زج بها في قمع التنظيم السياسي والإداري، وسمي هذا الهيكل بمراكز الاستخبار والعمل، وتذكر المؤلفة أنّ ممارسة التعذيب استعملت، ورخّص بها في مواطن كثيرة، إلى درجة أنّ الحدود بين الشرعية واللاشرعية تبدو وكأنّها قد تم توسيعها، وبفضل سيطرة السلطة العسكرية ابتداءً من جوان 1958م، تمّ توسيع المنطقيات التي تتحكّم فيها إلى أبعد النقاط الممكنة.