رحل نيكولا ساركوزي وحل محله فرانسوا هولاند على كرسي الرئاسة الفرنسية ليضع بذلك فرنسا على سكة اليسار بعد أن مالت كفتها طيلة الخمس سنوات الأخيرة إلى أقصى اليمين.واعتلى المرشح الاشتراكي كرسي قصر الاليزي بعد أن خاب ظن الرئيس المنهزم نيكولا ساركوزي في تحقيق مفاجأة آخر لحظة التي وعد بها أنصاره ولكنها لم تكن في نهاية المطاف سوى مفاجأة غير سارة له ولأنصاره الذين انتظروها دون جدوى. ولم يجد ساركوزي أمام الآلاف من أنصاره الذين انتظروه في ساحة لا كونكورد سوى الاعتراف على مضض بخسارته وتهنئة منافسه الذي سبق أن استهان بقدراته على مضاهاته في عرينه وتمكن في النهاية من إرغامه على الرحيل ولو بفارق ضئيل جدا. وقد خالف فرانسوا هولاند الذي لم يكن أي احد يتوقع قبل أشهر أن يكون الرئيس القادم لفرنسا خالف كل التكهنات عندما وفى بوعده بإعادة اليسار الفرنسي إلى سدة الحكم بعد فترة فراغ فاقت ثلاثة عقود كاملة. والغاية التي حققها بعد ان تبنى خطابا براغماتيا صاغه بعد دراسة متأنية لواقع سياسي واقتصادي واجتماعي سار باتجاه المنحنى السلبي ضمن ما أصبح يعرف بالسياسة الساركوزية التي قادت فرنسا إلى حافة هاوية الإفلاس الاقتصادي. وإذا كان الرئيس الفرنسي الجديد قد نجح في رهانه إلا أن الامتحان الأكبر مازال ينتظره للوفاء بالوعود التي تعهد بتحقيقها وعلى رأسها إعادة الاقتصاد الفرنسي إلى سكة النمو الايجابي والقضاء على المديونية العامة التي أثقلت كاهل الخزينة الفرنسية وتقليص نسبة البطالة التي بلغت الخطوط الحمراء بعد أن بلغت نسبة 10 بالمئة. ولكن الرهان الأكبر الذي يواجهه الرقم الأول الفرنسي يبقى مشاكل الهجرة والمهاجرين وقضية إدماجهم ولكن أيضا إعادة تقليص هوة الشرخ الذي أحدثته سياسة الرئيس ساركوزي تجاه هؤلاء وجعلهم بمثابة أعداء لفرنسا والفرنسيين وزرع الشك والريبة في نفوسهم وحول مستقبلهم في بلد ساهم إباؤهم وحتى أجدادهم في بنائه. ويكون هذا النكران للجميل هو الذي جعلهم يصوتون لفائدة المرشح الاشتراكي وكانت رايات دولهم رفرافة في ساحة ''لاباستيل'' إلى جانب الإعلام الفرنسية بعد أن وجدوا في الرئيس الجديد الأمل في إنهاء تلك الصورة النمطية التي ألصقت بهم على أنهم سبب مشاكل الفرنسيين ووضعتهم في خانة المشتبه فيهم ولو إلى حين. وإذا كان الناخبون الفرنسيون قد طووا صفحة السياسة الساركوزية فإنهم وبعد انتهاء نشوة الانتصار المحقق سيستفيقون على حجم التحديات التي ستواجه سياسة خليفته. وحتى وان سلمنا بمقاربة الرئيس فرنسوا هولاند أن نتيجة الانتخابات التي عرفتها بلاده ستكون لها انعكاسات مباشرة في مختلف الدول الأوروبية فإن ذلك لا يمنع من القول أنه استلم فرنسا وقد دخلت مرحلة الشك الاقتصادي بعد أن استفحلت أزمتها وجعلتها تتحول من قوة اقتصادية في قمة الازدهار إلى قوة تسير بسرعة فائقة باتجاه دوامة الانكماش. وليس من الغريب أن تكون تصريحات فرنسوا هولاند في اول خطاب بعد إعلان فوزه باتجاه ألمانيا اعتباطية ولكن املاه الوزن الذي أصبحت تمثله برلين في كل سياسة اقتصادية داخل الاتحاد الأوروبي بصفتها القوة الاقتصادية الأولى في تكتل انتابه الشك بعد سنوات من القوة التي شكلها وزن عملة الاورو التي هز كيان الورقة الخضراء قبل أن تتراجع تدريجيا بإعلان إفلاس دول مثل اليونان وايرلندا واسبانيا والبرتغال وبلوغ فرنسا وايطاليا حافة هذه النهاية. وهي كلها معطيات تجعل من فكرة التغيير التي رفعها الرئيس هولاند شعارا لحملته الانتخابية ويريدها أن تكون بذرة تزرع في كل أوروبا صعبة التحقيق بعد أن بلغت التوجهات الاقتصادية التي تبنتها أوروبا في عهد الثنائي ميركل-ساركوزي مرحلة اللارجوع وجعلت دولة مثل اليونان تميل في انتخابات أمس إلى أقصى اليمين بدلا من البقاء في موقع اليسار الذي فشل في انتشال هذا البلد من أزمته الخانقة وكلفته إعلان إفلاسه في سابقة ترشح الاتحاد الأوروبي لأن يدخل مرحلة تفكك محتوم رغم السياسة التقشفية التي انتهجتها ودفع عامة اليونانيين ثمنها غاليا. وهي السياسة التي يريد هولاند الإفلات من فكي كماشتها والدخول في مرحلة النمو والرفاه الاقتصادي رغم انه لا يملك أوراقا سحرية لتحقيق مبتغى كل الفرنسيين بل وكل الأوروبيين بعد أن خرج القرار من إطار الدولة الواحدة إلى الإطار الإقليمي في بروكسل التي أصبحت تحدد سياسات الدول الاقتصادية وتوجهها. ولكن الرئيس هولاند الذي ينعت بأنه رئيس الشباب يدرك حجم المتاعب التي تنتظره وهو لأجل ذلك لا يريد أن يظهر بمظهر الخاسر منذ البداية كما أن من مصلحته أن يظهر قوته في مواجهة هذه المتاعب والنجاح في حسمها حتى يحافظ على الوهج الشعبي الذي اكتسبه طيلة حملته الانتخابية. وهي القرارات التي يتعين التحلي بالجرأة الكافية لاتخاذها خاصة وان خصومه في الحركة من اجل الحركة الشعبية والجبهة الوطنية اليمنية المتطرفة ينتظرونه في الانتخابات العامة المنتظر اجراؤها يومي 10 و17 جوان القادم. وهو الموعد الذي يريد ساركوزي أن يجعل منه حصانه الرابح فيما اصطلح عليه ب''الدور الثالث ''لتلجيم الوافد الجديد الى الاليزي بينما يسعى الاشتراكيون واليسار بصفة عامة تأكيد قوتهم الصاعدة حتى يتمكنوا من تنفيذ سياستهم بأريحية بعد أن ضمنوا الأغلبية في كل المجالس المنتخبة الأخرى من مجلس الشيوخ إلى المجالس الولائية والمناطق ووصولا إلى المجالس البلدية لتفادي تكرار تجربة التعايش الصعبة بين الثنائي ليونال جوسبان وجاك شيراك. وهي كلها ''معارك'' يتعين على الرئيس الفرنسي الجديد أن يؤكد حنكته في إدارتها والأكثر من ذلك تحقيق النجاح فيها، لدحض صفة ''الفاقد للتجربة'' التي يحلو لخصومه أن ينعتوه بها وهم ينتظرونه في اول منعرج للاطاحة به.