خالفت النتائج التي أفرزتها الانتخابات التشريعية للعاشر ماي الجاري، توقعات غالبية المتتبعين والمحللين للوضع السياسي في الجزائر والذين تنبأوا لبرلمان جديد مشكل من عدة أحزاب مختلفة التوجهات والألوان، إلا أن خيار الشعب الذي يكون قد فضل الاحتماء بمبدأ الاستمرارية، ترجم رغبة الجزائريين في تحقيق التغيير من خلال اتباع وضع قائم وطريق مألوف بدل المغامرة باتخاذ طرق جديدة، ليقع الدور الآن على ممثلي هذا الشعب ليكونوا في مستوى المسؤولية والتحديات التي تنتظر البلاد بشكل عام وأداء الهيئة التشريعية بصفة خاصة. فالجميع كان ينتظر أن تفرز الانتخابات التشريعية للعاشر ماي برلمانا فسيفسائيا يضم عددا كبيرا من التشكيلات السياسية والقوائم الحرة، على أن يترتب عن هذا الوضع تشكيل تحالفات من شأنها إفراز توازن في النقاش السياسي يمكن الهيئة التشريعية من استمكال مسار الإصلاحات السياسية في ظروف مواتية، غير أن الحقيقة التي نطقت بها الصناديق يبدو أنها ستجعل المأمورية أكثر سهولة على اعتبار أن النقاشات الحادة التي قد تثيرها مشاريع القوانين التي ستطرح أمام ممثلي الشعب، سيتم الحسم فيها بصفة سريعة لصالح الأغلبية التي أفرزتها هذه الانتخابات، لا سيما في ظل ما هو متوقع من إعادة إنشاء تحالف سياسي بين الحزبين الأولين في الترتيب العام لعدد المقاعد، وهما جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، مما سيؤدي، حسب مخاوف عدة جهات معارضة، إلى غلق مجال النقاش السياسي داخل قبة البرلمان، مما شكل هاجس هذه الجهات التي كان يراودها الأمل في أن تكون تشكيلة المجلس الشعبي الوطني مغايرة لما كانت عليه في العهدة المنقضية، بل وذهب غالبية المحللين بما فيهم وزير الداخلية نفسه إلى التنبؤ بأن تتشكل تركيبة هذه المؤسسة التشريعية من فسيفساء تضم نسبا متقاربة من ممثلي الأحزاب السياسية المشاركة في هذه التشريعيات التي تعد الأولى من نوعها في ظل عهد الإصلاحات. والملاحظ أنه حتى وإن كان عدد التشكيلات السياسية التي دخلت بناية زيغود يوسف بموجب اقتراع الخميس المنصرم والذي بلغ 26 حزبا إضافة إلى تشكيلة الأحرار، يفوق بقليل العدد الذي أفرزته الانتخابات التشريعية في 17 ماي ,2007 حيث بلغ عددها حينها 23 تشكيلة بما فيها قوائم الأحرار، فإن اكتساح حزب جبهة التحرير الوطني لأكبر عدد من المقاعد التي تمت إضافتها في المجلس الشعبي الوطني يكرس -من حيث الشكل- الوضع الذي كان قائما في العهدة المنقضية، على اعتبار أن الأفالان الذي كان يحوز على 136 مقعدا أضاف 84 مقعدا لرصيده من المقاعد، بينما يقدر إجمالي المقاعد المضافة في الغرفة البرلمانية السفلى بموجب النص الجديد الذي يقنن هذه الزيادة ب 73 مقعدا. وإلى جانب هذه الحقيقية الحسابية؛ تتجه غالبية التحاليل إلى التأكيد أن الأفالان لن يجد أية مشقة في تكريس قوته السياسية في البرلمان من خلال التحالف مع التشكيلات السياسية التي تحمل توجهات وقناعات مشتركة، لا سيما وأن ما يفصله عن بلوغ مستوى الأغلبية المطلقة في المجلس الشعبي هو 13 مقعدا فقط، وإذا ما استندنا إلى التصريحات الأولى للأمين العام للحزب والتي قال فيها ''إن الأفالان سيواصل تحالفه مع من اعتاد العمل معه'' في إشارة صريحة إلى التجمع الوطني الديمقراطي الذي نال 68 مقعدا، فإن هيمنة ''الأفالان'' و''الأرندي'' على عمل الهيئة التشريعية خلال العهدة الجديدة تبدو ظاهرة من الآن، لا سيما في ظل الفارق الكبير في عدد المقاعد التي حازت عليها التشكيلتان مقارنة بالعدد المتبقي من المقاعد التي تحصلت عليها التشكيلات الأخرى مجتمعة (288 مقعدا مقابل 174 مقعدا). لكن بعيدا عن العمليات الحسابية، يبقى الحكم على أداء المجلس الشعبي الوطني الجديد سابق لأوانه وبعيد عن الحقائق التي قد تتدخل عوامل أخرى في تحديدها، ومنها عامل التجوال السياسي الذي يبقى يهدد العمل السياسي في العديد من الأحزاب، لا سيما في ظل الخلافات التي لا زالت قائمة في بعضها وبالدرجة الأولى حزب جبهة التحرير الوطني، أما العامل الثاني الذي قد يكذب كل الأحكام المسبقة التي تطعن في حسن سير أداء البرلمان القادم فيتعلق بطبيعة المرحلة السياسية التي تقبل عليها البلاد في سياق استكمال مسار تعميق الإصلاحات التي أعلنها رئيس الجمهورية، السيد عبد العزيز بوتفليقة، والتي بلغت محطة محورية تجعل من نزلاء مبنى زيغود يوسف الفاعلين الأساسيين لنجاحها، نظرا للمهمة المصيرية التي تنتظرهم والمرتبطة بصياغة التعديلات التي سيتضمنها الدستور الجديد للبلاد، علاوة على إقرار باقي القوانين والنصوص الداعمة لمرحلة الإصلاحات والتجديد التي تستعد الجزائر لولوجها. ولعل هذا ما جعل وزير الداخلية أثناء الندوة الصحفية التي عقدها للإعلان عن نتائج اقتراع ال 10 ماي، يثير انتباه الإعلاميين إلى أنه حتى وإن كان ترتيب الأحزاب السياسية التي ظفرت بمقاعد المجلس الشعبي الوطني لم يتغير بشكل كبير خلال هذه الانتخابات، إلا أن معظم تشكيلات قوائم تلك الأحزاب تغيرت، ملمحا إلى أن هذه التشكيلات ستضطر إلى تغيير آدائها من منطلق وجوب الانخراط في مسعى التجديد الذي تسير البلاد على خطاه. وإلى جانب العاملين المذكورين، يمكن التذكير أيضا بعامل آخر سيكون له بالتأكيد تأثير ليس فقط على أداء الأحزاب السياسية داخل قبة البرلمان، وإنما على تركيبتها أيضا، ويرتبط بالاستحقاقات الانتخابية التي تقبل عليها الجزائر، وفي مقدمتها الانتخابات الرئاسية التي لا يفصلنا عنها سوى سنتين، ويتوقع مع اقتراب موعدها أن يشتد الحراك السياسي، مع كل ما قد يحمله من تصعيد في التنافس بين التشكيلات التي تنشط في الساحة السياسية وداخل هذه الأحزاب السياسية ذاتها. ومهما قد يقال في التكهن بنوعية الأداء السياسي للنواب الجدد وانعكاسات اقتراع العاشر ماي عليه، فإن المؤكد هو أن المسؤولية التي تقع على ممثلي الشعب في هذه المرحلة المصيرية التي تمر بها البلاد ستكون ثقيلة نظرا للمهام الجادة التي تنتظرهم والتي تفرض على كل منهم إعلاء المصلحة العليا على المصالح الشخصية والحزبية.