مما يلفت الانتباه مع حلول هذا الموسم الذي يعد فترة للنزهات والأسفار، هو تراجع عدد محلات الصور البريدية التي لطالما كانت الوسيلة التي يلجأ إليها كثيرون، للاحتفاظ بلقطات مميزة تم التقاطها في مناطق زاروها، ويكون هذا التراجع المسجل لحساب الرسائل الالكترونية التي تمثل لغة العصر.. ما يخلف نقطة استفهام مفادها؛ هل الصور البريدية في آخر أيامها؟ كانت الصور البريدية من أهم الوسائل المستخدمة في التواصل قبل ظهور الأنترنت والهواتف النقالة، حيث تعيد شريط الذكريات إلى كل من شده الحنين إلى مناطق زارها أو عاش فيها لفترة من الزمن، لكن قلت حاليا درجة الإقبال عليها، رغم أهميتها في الترويج للسياحة وترسيخ أحداث تاريخية في الذاكرة، بشهادة بعض التجار ممن لم يهجروا نشاط بيع الصور البريدية. وتختلف الصور البريدية المعروضة في بعض المحلات من حيث التصميم والهدف منه، فبعضها يروي تفاصيلا تاريخية، وهذا النوع تتراوح أسعاره ما بين 25 دج و40 دج. والبعض الآخر يركز على الوجه السياحي للبلاد بإبراز ثلاثة أو أربعة مناظر طبيعة لمنطقة معينة. ويعرض هذا النوع من الصور البريدية ب 15 دج. عدد باعتها يكاد يعد حاليا على الأصابع، إذ أنّ المهتمين بهذه التجارة هم في الغالب من هواة جمع الصور البريدية، والمدفوعين في ذلك برغبة الحفاظ عليها من الاندثار، حسب ما كشفته تصريحات البعض ممن تحدث “المساء” معهم. في محل عتيق دونت عليه عبارة “وراقة وصور بريدية”، فتح أبوابه في زمن الجزائر ما بعد الاستقلال، كان الحديث حول الموضوع مع بائع شاب فضل أن يسير على درب والده الذي شرع في المتاجرة في الصور البريدية سنة 1963. ويقول محدثنا: “إنّ انتشار شبكة الأنترنت، خاصة وسط فئة الشباب، عامل أسهم في تقليل الاعتماد على الصور البريدية، يضاف إلى ذلك انتشار الهواتف النقالة واستخدامها في التواصل اعتمادا على الرسائل القصيرة.. وإن كان البعض يتخذ من هذه الأخيرة وسيلة للتعبير، إلا أنّه سرعان ما يتم إلغاؤها، في حين تظل الصورة البريدية موجودة تذكّر صاحبها بلقطات مميزة من الحياة أو بشخص عزيز أهدى له تلك الصورة لتظل عربون محبة على الدوام. ويكشف أنّ عدد المهتمين بتجارة الصور البريدية قل بنسبة جد ملحوظة، بسبب تراجع عدد الفنانين الناشطين في مجال إنتاج الصور البريدية.. ويتابع صاحب المحل ليبرز أنّه رغم رياح العصر وما نجم عنها من تغييرات، أثرت على نسبة الإقبال على الصور البريدية، إلاّ أنّه مصرّ على المضيّ قدما في مجال تجارته، مشدودا بالحنين إلى زمن تجارة ورثها عن الوالد، وإلى حكايات عن مدن، قرى ومناظر تختلف باختلاف الحقب التاريخية التي يمر عليها الإنسان. ويضيف ل “المساء” بأنّ التراجع أصبح ملحوظا منذ سنة 2000، بسبب قلة الإنتاج وسيادة التكنولوجيا الحديثة، غير أنّ هذه التجارة تنتعش بعض الشيء مع إطلالة فصل السياحة والأسفار، حيث يشكل السّيّاح الأجانب والمغتربين منهم الشريحة الأكثر إقبالا على طلب الصور البريدية، مستطردا أنّ البعض يستجيبون لرغبة بعض أصدقائهم من الأقدام السوداء في الحصول على صور بريدية تترجم الحنين إلى مناطق ترعرعوا فيها، بينما يكثر إقبال العاصميين بصفة خاصة على المحل عند حلول السنة الجديدة، للبحث عن صور بريدية تحمل عبارات التهاني بالمناسبة. وعلى أية حال، يعتقد محدثنا أنّه على الرغم من أن صور البريد لم تعد تُسْتَخدم كثيرًا في مجال الاتصال،إلا أنّها ظلت تؤكد شعبيتها خلال المناسبات ومواسم الاصطياف والسياحة. وعن مستقبل هذه المهنة التي تبدو مهددة بالزوال، يشير إلى أنّه رغم المعطيات الحالية التي يختصرها، قلة الإقبال على اقتناء الصور البريدية ونقص الاهتمام بإنتاجها في المقابل، إلا أنه يأمل في غد أفضل تعود فيه للصورة البريدية قيمتها ومكانتها، كما هو الحال في بعض الدول الأوروبية، حيث عادت مجددا لتقيم وزنا كبيرا للصورة البريدية، نظرا للمعاني التي تحملها، خاصة عندما تحمل الإصدارات منها رموزا وتخلد مناسبات تاريخية، وتكشف سحر مناظر طبيعية. هل البطاقات البريدية في طريقها إلى الزوال؟ مرة أخرى يطرح السؤال ليرد بائع آخر (متقدم في السن) بشارع العربي بن مهيدي بأنّ هذا السؤال جدير بالطرح على الجهات المعنية، موضحا أن قلة إنتاج الفنانين للصور البريدية وراء تراجع عدد ممارسي تجارة بيع هذه الأخيرة. ويستطرد أنّ فترة العشرية السوداء لم تسمح للكثيرين بمزاولة نشاط إنتاج الصور البريدية، كونها تتطلب التقاط الصور عن طريق الطائرة المروحية، وهذا أمر معقول، لكن منذ أكثر من عقد تحسنت الظروف الأمنية، ومع ذلك استمر الشح في إنتاج الصور البريدية، مما يستدعي تدخل الجهات المعنية للنظر في مستقبل هذا المنتوج الفني والثقافي. ويستكمل حديثه ليؤكد من جهة أخرى أنّه رغم كل شيء، ما يزال البعض من الجيل الحالي متمسكا بالصور البريدية، ويفضلها على الرسائل الالكترونية القصيرة.. وعموما، صحيح أنّ التكنولوجيا هي أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى تراجع ثقافة إرسال الصور البريدية على الطريقة التقليدية، إذ يقوم الكثير من الناس هذه الأيام بإرسال الصور عبر البريد الالكتروني، للتهنئة في مناسبات رأس السنة، الأعياد الدينية، مناسبات الفرح وغيرها كأحسن وسيلة للاتصال العاجل، ومع ذلك مازال هناك من يهمه أن يحرص على التواصل عن طريقها. كما أنّ هناك من يحرص على جمعها مثلها مثل الطوابع، ولهذا ستبقى تذكرنا بالماضي، في الوقت الذي يستخدمها الباحثون في التعرف على أوجه الحياة الاجتماعية والثقافية لمختلف المدن، إضافة إلى تسليط الضوء على سحر المناظر الطبيعية التي تختلف من بلد إلى آخر، ذلك أنّه تبقى للبطاقات البريدية المصورة التي ظهرت منذ قرن أو أكثر أهميتها التاريخية، الثقافية والسياحية في آن واحد، فيما يبقى الأمل في الحفاظ على شعبيتها قائما على هواية جمعها.