الكل يجمع على أن دور الأب تغير في الأسرة الجزائرية، ولا تُطرح الإشكالية على مستوانا فقط، بل هي ظاهرة يقول الأخصائيون أنها منتشرة في كل أنحاء العالم، لكنها في بلادنا تحمل خصوصية بالنظر إلى أسبابها وتداعياتها. ويشير العارفون بالموضوع إلى أن “الاستقالة الأبوية” ازدادت حدتها في السنوات الأخيرة، وهو ما انعكس سلبا على الأمهات والأبناء على السواء. ولتسليط الضوء على الظاهرة وإبراز أهم ملامحها وإعطاء الفرصة للباحثين لتحليلها، نظمت جمعية العلاج العائلي والمؤسسة الجزائرية للطب النفسي ملتقى مؤخرا بالعاصمة لطرح إشكالية “الوظيفة الأبوية... بين الأمس واليوم”. ومنذ البداية، أوضح رئيس جمعية العلاج العائلي البروفيسور فريد كاشا أهمية الموضوع المطروح للنقاش، باعتبار أن وظيفة الأب في الأسرة ظلت ومازالت مصدرا يغذي خيال الناس، إذ أنه يساوي في هذا الخيال “سلطة قوية”، لكن الواقع قد يكون مختلفا تماما، وهو مايخلق لدى الشخص اضطرابات متعددة. من جانبها، أشارت السيدة كريمة عمار من ذات الجمعية، أن موضوع دور الأب في العائلة يمس الجميع. وعن تحليلها للوضع الراهن، قالت إننا نعيش زمن “النظام الأبوي المظهري”، معترفة بأن النساء ذاتهن يخضن دور الأب في البيت. وفي مداخلة عنونتها ب«الدفاع عن النظام الأبوي” جمعت البروفيسور سعيدة دوكي التي عملت في مجال الصحة العقلية للنساء مدة ثلاثين سنة، توجتها بكتاب عنوانه “النساء والتمييز...اكتئاب، دين، مجتمع”، آراء الكثير من الاختصاصيين من مفكرين وأطباء نفسانيين حول مسائل متعددة، منها المساواة بين الرجل والمرأة والعلاقة بين الأم والابن، وصولا إلى أسباب انسحاب الأب من مسؤولياته. وفصلت السيدة دوكي التطرق إلى هذه المسائل من منطلق نظري، وذلك عبر استعراض أهم النتائج التي استخلصتها مختلف الدراسات في هذه المجالات، مستشهدة بأقوال أكبر المختصين كفرويد وغي كورين ...الخ. ومن أهم النقاط التي طرحتها، نجد الحالة النفسية والعصبية للمرأة التي تؤكد الأبحاث أنها الأكثر عرضة للقلق بالنظر إلى طبيعتها البيولوجية من جهة، لكن بالأخص، بسبب حالة التمييز التي تعيشها داخل الأسرة والمجتمع، مشيرة إلى أن العديد من العوامل تؤكد وجود تراجع في مكتسبات المرأة في مجال المساواة، لاسيما في البلدان الإسلامية باسم الدين، رغم إقرارها بأن الإسلام بريء من الطروحات التمييزية ضد المرأة. كما أنها لفتت الانتباه إلى أنه من الخطأ طرح مسألة التمييز في العالم الإسلامي فقط، ملاحظة أنه موجود كذلك في البلدان الغربية تحت مسميات أخرى أهمها “العلم”، إذ أشارت إلى بعض الأطروحات التي تريد العودة بالمرأة إلى مرحلة كانت وظيفتها الوحيدة هي الأمومة، مرجعة ذلك إلى عوامل بيولوجية تدفع إلى تقسيم الأدوار. ولكنها بالمقابل، تعترف بأن وضع المرأة ليس من صنع الرجال فقط، وهي بذلك تطرح مقولة “المرأة عدوة المرأة” قائلة؛ “إن النساء في الكثير من الأحيان هن حارسات القيود التي تلفهن”، فالمرأة هي التي تبدأ سلسلة التمييز عندما تربي أبناءها بطريقة تفرق فيها بين الذكر والأنثى. وبرأيها، فإن العلاقة الخاصة جدا بين الأم وابنها الذكر راجعة إلى إدراك الأم بأنها لن تكون لها سلطة إلا عبر ابنها، كما أن عدم تدخل الأب في تربية الابن إلا في سن متقدمة، يساهم في خلق هذه العلاقة، وهذا الرابط القوي جدا بين الاثنين، كما أن غياب حياة زوجية بين الوالدين يجعل الأم تفرغ كل عواطفها في ابنها، لأنها تحس بكينونتها فيها. وهي العلاقة التي تجر مشاكل عديدة للرجل، لاسيما في علاقاته مع النساء، ولهذا فإنها رجعت إلى قول أحدهم عندما أشار إلى أن “الرجل لايمكنه أن ينتصر حقا إلا إذا تمكّن من الانتصار على سيطرة أمه”،ومثل هذه الوضعية تضر بالنظام الأبوي لدرجة أن البعض يقول؛ إن “الرجل لايمكنه أن يكون أبا بالفعل”. واعتبارا لكل ما سبق، شددت المحاضرة على ضرورة وجود حضور للوالدين معا في حياة الأبناء، وضرورة تقاسم الأدوار المنوطة بهما. من جانبها، قدمت البروفيسور نادية كاشا، وهي مختصة في الطب النفسي، أمثلة حية عن معاناة لأطفال بسبب غياب دور الأب. وسردت بعض العبارات المتداولة على ألسنتهم مثل؛ “أبي لايعيرنا أي انتباه”،”أبي غائب ولما يدخل للبيت، يأخذ سيجارته ويشعل التلفاز ولايهتم بنا أبدا”،”أمي هي التي سجلتني في نادي كرة القدم”. أكثر من هذا، فإنها لاحظت أن حتى الأخصائيات النفسنيات اللواتي يستقبلن أمهات ينسين في خضم حديثهن أن يسألن عن الأب! وهو مايعكس ترسخ غيابه حتى في الذهن. وتروي كذلك قصة الطفل عبد الغني -11 سنة - وهو ابن لصناعي ثري يشتكي دائما من غياب أبيه لكثرة انشغالاته المهنية، وهو ما أدى به في آخر المطاف إلى الهرب من المنزل، أمام حيرة والده الذي تساءل عن أسباب ذلك، مشيرا إلى أنه وفر لابنه كل مايحتاج إليه من أشياء كان يحلم بها هو في طفولته. وفي السياق، تسجل أن الكثير من الآباء لايجمعهم مع أبنائهم إلا علاقة توفير الحاجيات المادية، في غياب تام للسلطة الأبوية، وهو ماتشتكي منه الكثير من الأمهات اللواتي يجدن أنفسهن في مواجهة عنف أطفالهن أو سلوكاتهم الطائشة لوحدهن. وفي استعراضها لأسباب هذه الاستقالة الأبوية، رجعت المحاضرة إلى المراحل التي مرت بها الجزائر منذ الاستعمار، معتبرة أن “الأبوة” هي هوية فُقدت لاعتبارات تاريخية، ولم تخف اقتناعها بأن سنوات الإرهاب التي عاشتها الجزائر زادت الطين بلة، لأنها أخرجت النساء من بيوتهن وجعلتهن يتحملن مسؤولية الرجال، وهو مازاد إحساس هؤلاء بالنقص مع الوقت، في حين اكتسبت النساء ثقة في قدراتهن. وعبرت عن اقتناعها بضرورة البحث عن نموذج لنظام أبوي جديد، لأن النموذج القديم لايمكنه أن يوظف في الوقت الراهن. واعترفت بأن المرجع الوحيد الذي تمكن من تجاوز أزمة الهوية في الجزائر هو”الدين” أو”الإيمان بالله” الذي مكن من المحافظة على الكثير من العادات العائلية.