نحسب أنفسنا متباعدين، لا يكاد يربطنا بعضنا البعض إلا هذه الإنسانية المصطنعة، لكننا في واقع الأمر نتقارب في جميع الأصقاع، وتتشابه أحلامنا وأحاسيسنا وعواطفنا حتى وإن نحن تنكرنا لمثل هذا التشابه. الحقيقة لمستها لمسا وأنا أصغي بالصدفة لأغنية شعبية أمريكية ترددها مطربة من بني الجنس الأسود. وهي تعالج قضية من أخطر القضايا في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وأعني بها سطوة السجان الأبيض، وما يفعله في الإنسان الأسود بالرغم مما قيل عن تساوي الحقوق في ذلك البلد الشاسع الأطراف، الغريب الأطوار. تصف تلك الأغنية سيدة زنجية وهي تبكي ابنها بعد أن وضعت الشرطة يديها عليه، وراحت تكيله ضربا وشتما قبل أن تضعه في القطار لكي يقوده إلى السجن دون محاكمة. والأغنية مؤثرة مبكية حقا، فهي تتحدث عن شرطي، صاحب جزمة غليظة، يركل شابا أسود ارتكب حماقة من الحماقات في إحدى الولايات المعروفة بتطرفها العنصري في أمريكا. وتحاول الأم انتشاله من قبضة الشرطة، وبالذات من أشداق ذلك الشرطي صاحب الجزمة الغليظة، لكنها لا تفلح، إذ هاهو الشرطي الظلوم الجهول ينهال على ولدها بالقرب من القطار الذي يقوده إلى السجن، ثم يدفعه بقوة نحو العربة بينما القطار يزمجر ويرغي ويزبد كأنما هو أنشىء خصيصا لتعذيب أمثال ذلك المغبون. وعندما ينطلق القطار من المحطة التي توقف فيها بعض الدقائق، تنهمر دموعها، وتطلق صرخة ألم وهوان. وينبعث صفير القطار لكي يزيدها عذابا على عذاب، وعندئذ، تخرج الكلمات واللحن من صدرها مما يدلل على أن الألم قديم في أعماق أعماقها على ابنها وعلى جميع أبناء بني جلدتها، وتقول: القطار الثاني عشر أخذ ولدي.. وتردد نفس الجملة مضيفة إليها بعض الأوصاف الأخرى. هذا المشهد موجود في جميع مجتمعات الدنيا، وخاصة في البلدان التي لا يحظى فيها الإنسان بأي نوع من أنواع الكرامة، لا سيما إذا كان أسود البشرة أو أحمرها. وأنا أنصت إلى تلك الأغنية، استذكرت الأغنية الشعبية التي كان يرددها المحبوسون عندنا، من أولئك الذين تلقي بهم السلطات الاستعمارية الفرنسية في سجون لامبيز وكايان وكاليدونيا الجديدة، وهي تقول: كي أطلعنا الحبس الحراش، يا المنفي.. وبالفعل، فلكم ترددت هذه الأغنية على ألسنتنا وألسنة النسوة الجزائريات في الزمن الأسود. ونفس المضمون لمسته أيضا في أغنية الموسيقار النابغة، سيد درويش، حين راح يصف ما تفعله الشرطة البريطانية في الإنسان المصري خلال الحرب العالمية الأولى ومطالع العشرينات من القرن الفائت: بلدي، يا بلدي، والشرطة خادت ولدي. ولا شك في أن هناك نماذج مشابهة في جميع بلدان العالم، والسبب هو أن الإنسان يدعو أخاه الإنسان كلما اشتدت عليه وطأة السجان، أو ناله العذاب من أخيه الإنسان. وما أصدق الشاعر السوداني محمد الفيتوري حين يقول: يا أخي في الشرق، في كل سكن يا أخي في الأرض، في كل وطن أنا أدعوك، فهل تعرفني يا أخا أعرفه رغم المحن! وما زال القطار الثاني عشر يتوقف في هذه المحطة أو تلك عبر العالم كله، لكي يزيد المغبونين عذابا على عذاب، وقهرا على قهر!