تسبب التدني الذي تعرفه الساحة الغنائية عندنا وفي كثير من دول وطننا العربي، في التفاف الجمهور على التراث الغنائي الأصيل بما فيه التراث الوطني وما يمثله من كلمات نظيفة ومعان سامية. لعل ذكرى الشهيد في الجزائر التي نحتفل بها في كل 18 فيفري، خير دليل على تذوق مثل هذه الأغاني الجميلة التي لا يزال الكثير منها يحفظ عن ظهر قلب، يرددها الشباب والشيب بمجرد استحضار مقطع صغير منها، في حين أن الكثير من أغاني الكليبات أو أغاني ''السندويش'' - كما كان يسميها الراحل عبد الوهاب - سرعان ما تفرقع بحجمها الفارغ. ذكرى الشهيد المقدسة في التراث الوطني الجزائري، قدمت لها الكثير من الروائع، لعل ابرزها نشيد ''يا شهيد الوطن'' الذي يقول مطلعه : يا شهيد الوطن يا مثال الوفاء أنت خير فتى يستحق الثناء أنت في الخلد أعز الخالدين سرت للتاريخ مرفوع الجبين غيرها من الأناشيد كثيرة، لكن المهم لماذا لم تمت مثل هذه الأغاني وبقيت تردد من جيل الى جيل، لعل من أهم الأسباب صدقها وتسجيلها للحظات تاريخية حاسمة صنعها الشعب، فعندنا في الجزائر أغلب من وضع كلمات وألحان تلك الأناشيد كانوا من الثوار ومن أبناء هذا الشعب، سخروا حياتهم لتسجيل تلك المآثر بإمكانيات فنية قادرة على أن تعكس آمال وتطلعات وتضحيات من قدموها. تحضرنا هنا مسيرة الفنان الكبير الراحل هارون الرشيد، الذي قضى حياته في خدمة الأغنية الجزائرية، فرغم امكانياته في شتى فنون الموسيقي الكلاسيكية، لكنه - رحمه الله - تفرغ ليبدع بإسهاماته الخالدة إبان الثورة التحريرية وبعد الاستقلال، إلى درجة أنه أصبح غارقا في كل ما هو فن وطني، كيف لا وأغلب ما لحنه كان في السجن؟ وتشهد على ذلك رائعته نشيد ''الاتحاد'' الخاص بالاتحاد الوطني للعمال الجزائريين، الذي طلبه منه الشهيد عيسات ايدير وكتبه له في السجن الراحل الدكتور محمد عروه. اللحن العسكري ظل لصيقا بهارون الرشيد حتى وهو يضع ألحان أغنية عاطفية، وهكذا حال الكثيرين من أبناء جيله الذي تغنوا بالحب بأنغام عسكرية من فرط حبهم للجزائر. أغان كثيرة لا تزال حية منذ فترة الحركة الوطنية والنضال السياسي في مطلع القرن العشرين الى غاية ,1945 فقد كانت تغنى في كل بقعة من أرض الجزائر، رغم محاصرتها والتضييق على أصحابها كي لا يشحذوا الهمم ضد من كان سببا في نهب تاريخهم وبلادهم، هكذا أصبح التاريخ والذكريات يرفقان دائما بتلك الأناشيد المدوية، كما أن بعض تفاصيلهما تتجلى في أغاني الحنين والغربة والعذاب والمناجاة التي أثرت في وجدان الشعب على مر الزمن، بقي هذا التراث الموسيقي ثابتا لم يتأثر برياح التغيير العاتية التي خلفت حطاما من الفن الردئ الذي لا يرقى إلى ذوق وتطلعات الجمهور. من جهة أخرى، بقي هذا الفن الراقي المتلزم، اللحمة التي تجمع الشعوب العربية مغربا ومشرقا، إذ كانت تعلم الأجيال فيها أناشيد أغلب البلدان العربية كما كان الحال في الجزائر وفي غيرها، كما كانت أغاني الثورة وفلسطين تنتشر كالبرق في كل أصقاع وطننا العربي، إلى درجة أن كل شعب يراها تراثه الغنائي الوطني من فرط تبنيه لها.