عرف النشاط الدبلوماسي في الجزائر خلال سنة 2012، حركية ملحوظة بسبب التحولات الإقليمية والجهوية التي تعرفها مناطق الجوار، مما دفع إلى مسايرتها والتفكير في الأساليب الملائمة للتعاطي معها. وكثيرا ما حظيت مقاربات الجزائر في هذا المجال بالتقدير والاحترام، رغم الانتقادات التي يوجهها لها البعض بسبب اِلتزامها الصمت إزاء بعض القضايا، في الوقت الذي أكدت فيه الجزائر على تمسكها بدبلوماسية الأفعال وليس دبلوماسية التصريحات. وقد نجحت هذه الدبلوماسية في الكثير من المناسبات، في تمرير الرؤى الخاصة بمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة وكافة الآفات المتعلقة بالشق الأمني مباشرة. ولعل أكثر ما ميز السنة المنقضية هو التطورات الخطيرة التي تشهدها مشارف الحدود الجنوبية للبلاد، بسبب الأزمة في شمال مالي، وذلك في أعقد قضية عرفتها المنطقة بسبب التداعيات الخطيرة التي قد تنعكس لا محالة على كافة مناطق الساحل، وقد ركزت الجزائر كثيرا على إيجاد حل سلمي لهذه الأزمة وتفادي التدخل العسكري الذي ستكون نتائجه وخيمة على المديين القريب والبعيد، بشهادة جميع الخبراء والمحللين. وإذ حرصت على إبعاد الخيار العسكري في التعاطي مع هذه الأزمة، في الوقت الذي يحظى فيه بإجماع من قبل بعض الدول الإفريقية والقوى الكبرى، فإن الدبلوماسية الجزائرية لم تفقد الأمل من أجل التوصل إلى إيجاد تسوية سلمية، رغم مصادقة مجلس الأمن على لائحة تجيز التدخل العسكري بشروط، حيث رعت خلال الأيام الأخيرة إتفاقا بين حركتي أنصار الدين والأزواد، يصب في إطار تشجيع الحوار و المفاوضات مع الحكومة الإنتقالية بباماكو. ويأتي ذلك في الوقت الذي عاشت فيه الدبلوماسية الجزائرية أصعب الظروف بعد الترويج لأخبار عن مقتل الدبلوماسي الجزائري طاهر تواتي، شهر سبتمبر الماضي، من قبل حركة التوحيد والجهاد بغرب إفريقيا. وهي الأخبار التي لم تثبتها أو تنفها وزارة الخارجية بسبب عدم وجود الأدلة الكافية. ورغم هذه التطورات، إلا أن الدبلوماسية الجزائرية لم تأل جهدا في الدعوة إلى تكثيف الجهود ودعوة دول الساحل و الشريكة لها من أجل التصدي لظاهرة الإرهاب، من خلال التذكير والتحسيس بأهمية تجريم دفع الفدية، بعد خوضها لمعركة دبلوماسية تكللت بموافقة أممية، على اعتبار أن الأموال المتأتية من الفدية تشكل أحد أبرز مصادر تمويل الجماعات الإرهابية، سواء في الساحل الإفريقي أو في الصومال أو أي منطقة تشهد نشاطا للجماعات الإرهابية. كما استطاعت الجزائر من خلال الإتحاد الإفريقي تقديم مشروع قانون نموذجي إفريقي لمكافحة الإرهاب، مما يعني أن هناك إمكانية لطرح المبادرة على المستوى العربي والبحث عن صيغة للتوصل إلى توحيد التشريعات المتعلقة بمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة والعابرة للحدود، بما يمكن الأجهزة الأمنية العربية من تكثيف الجهود لمحاصرة الإرهاب. وبالاضافة إلى ذلك، تلعب الجزائر دور المنسق والفاعل الإقليمي المحوري لمنطقة الساحل والصحراء في مواجهة تحدي مكافحة القاعدة في منطقة الساحل والصحراء، بعد أن أثبت داخليا نجاعته في ذلك، بفضل تبني خيار المصالحة الوطنية من جهة، وقدرات الجيش الوطني الشعبي، والأسلاك المشتركة الذين أظهروا قدرة كبيرة على مواجهة الجماعات الإرهابية، في ظل توفير الدولة لأحدث التقنيات المستعملة الدولية، حيث لعبت الجزائر فيها دورا محوريا في تبني سياسة رفض أي تدخل أجنبي، خاصة ما تعلق بالقواعد العسكرية. فقد كان الاجتماع الوزاري الثالث للمنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب الذي احتضنته أبو ظبي (الإمارات العربية المتحدة) مؤخرا، فرصة للجزائر لاستعراض رؤيتها بخصوص مكافحة الآفة والأساليب المعتمدة في ذلك ،لاسيما فيما يتعلق برفض دفع الفديات للجماعات الإرهابية المحتجزة للرهائن، إذ توج الإجتماع بالمصادقة على ”مذكرة الجزائر” بهذا الخصوص، والتي تضمن نضوب المصادر الناجمة عن دفع الفدية.
لا للتدخل في الشؤون الداخلية للدول ويمكن القول إن سنة 2012 كانت زمن اعتراف العالم بصحة المقاربة الأمنية والسياسية التي تتبناها الجزائر على المستويات الإقليمية، الجهوية والعالمية، إذ تقر القوى الكبرى، بجدوى المقاربة الجزائرية التي ترتكز على الحوار لا التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، وعلى التنسيق الأمني والمساعدة التقنية (التكوين والسلاح الضروري لمكافحة الإرهاب)، وكان لهذا الإقرار أن تخلت الإدارة الأمريكية عن تنصيب القاعدة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم)، لتتحول بعدها مباشرة، الجزائر العاصمة، إلى قبلة للقادة السياسيين والعسكريين الأمريكيين والبريطانيين، حيث تم استقبال بعضهم من طرف رئيس الجمهورية قبل أن يؤكدوا صحة المقاربة السياسية والأمنية الجزائرية لقضايا الأمن والإستقرار، ويعترفون على إثر ذلك بالدور الريادي للجزائر في منطقة الساحل الإفريقي، وهوما أكده قائد (أفريكوم) الجنرال وليام وورلد في زياراته للجزائر، حيث اعترف بالدور الحاسم للجزائر في إرساء الأمن والإستقرار في هذه المنطقة بالنظر إلى التجربة الجزائرية في مكافحة الإرهاب، وبناء على صحة مقاربتها الأمنية والسياسية لمشاكل المنطقة. وكان لهذا التطور في العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين الجزائر وأمريكا، إقرار البلدين بضرورة تعزيز وتوسيع الشراكة في المجالين الأمني والاقتصادي، وهي النتائج الهامة التي توصلت إليها زيارة وزير الخارجية الجزائري مراد مدلسي إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، والوزير المنتدب المكلف بالشؤون المغاربية والإفريقية السيد عبد القادر مساهل الذي ترأس أشغال الدورة العادية الأولى للحوار الإستراتيجي بين الجزائروالولاياتالمتحدة بواشنطن، رفقة نائب كاتبة الدولة الأمريكية المكلفة بالشؤون السياسية ويندي شيرمان، وذلك في انتظار أن يعقد الإجتماع القادم بالجزائر سنة 2013. ويعد هذا الحوار الإستراتيجي تتويجا لإرادة مشتركة لدى الطرفين الأمريكي والجزائري، بالنظر لكثافة العلاقات التي كانت تستدعي التنظيم والتأطير ومزيدا من التوضيح، إذ من شأن هذا الإطار الجديد إضفاء دفع جديد للعلاقات الجزائريةالأمريكية، ومن ثم التمكين من المضي إلى أبعد من الشراكة في مجال المحروقات لتوسيع مجال التعاون إلى كل الميادين، لاسيما الصحة والسكن، الصناعة، الفلاحة والري، الثقافة و التعليم. كما تميزت سنة 2012 بتعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية بين الجزائروفرنسا، لاسيما من خلال العديد من الزيارات رفيعة المستوى بين البلدين، وتعززت أكثر بعد زيارة الدولة الأخيرة التي قام بها الرئيس فرانسوا هولاند إلى الجزائر بدعوة من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. وقد سمحت هذه الزيارة المنتظرة والمرجوة من البلدين، والتي تكتسي دلالة رمزية كبيرة بعد خمسين سنة من الاستقلال الوطني لكل من الجزائر وباريس، بالاتفاق من أجل التقدم معا بما يصب في المصلحة المشتركة للبلدين والتوصل إلى علاقة قوية ومجددة تنطوي على حوار مثمر.
زيارة هولاند.. هل هي وضع حد للتوترات؟ كما أن الرئيس الفرنسي يسعى من خلال هذه الزيارة الدبلوماسية، إلى وضع حد للتوترات التاريخية بين باريس والجزائر حول مسائل الذاكرة التي أبقت البلدين لمدة طويلة في منطقة توتر. ومن خلال تأكيده على التوافق الفرنسي الجزائري، أعرب عن أمله باسم الجمهورية الفرنسية، في إعادة بعث المبادلات الإقتصادية بين البلدين ووضعها في إطار التواصل والسمو بها إلى المستوى المأمول من كلا البلدين. وتعكس هذه الزيارة التي توجت بالتوقيع على سبع اتفاقيات تعاون، إرادة الجانبين الجزائري والفرنسي في طي صفحة الماضي المضطرب والتقدم معا نحو مستقبل موجه إلى تشاور مستمر، والتي تضمنها بيان الجزائر حول الصداقة و التعاون ووقعها الرئيسان بوتفليقة وهولاند. وفي إطار الحديث عن هذه العلاقات، فقد شكل موضوع اعتراف فرنسا الرسمي بالمجازر التي تعرض لها مئات الجزائريين في ال 17 أكتوبر 1961 بباريس خلال سنة 2012، منعرجا حاسما في العلاقات الجزائرية الفرنسية، حتى وإن أثارت المبادرة التي تظل غير مسبوقة انتقادات وطرحت استفهامات. أما مسألة الذاكرة التي طالما أغفلتها السلطات الفرنسية، فقد تم التطرق إليها خلال زيارة هولاند لبلادنا، حيث اعترف أمام أعضاء غرفتي البرلمان الجزائري بالطابع الجائر للنظام الاستعماري الذي تسبب في معاناة الشعب الجزائري. مذكرا في هذا السياق، بمجازر سطيف، قالمة وخراطة سنة 1945، والتي تظل - كما قال - ”راسخة في ضمير الجزائريين وكذلك الفرنسيين”، وأن الحقيقة ”يجب أن تقال حول الظروف التي انعتقت فيها الجزائر من النظام الاستعماري”...”ومن المهم جدا القول إنها ليست قيمنا التي طبقت”. ولم يثن اهتمام الجزائر بقضايا الجوار عن الالتفات لما يجري في المنطقة العربية، أبرزها الوضع في سوريا، وباعتبارها عضوا في اللجنة العربية المكلفة بمتابعة هذا الملف، فقد أدت ما عليها في الدفاع عن حق الشعب السوري في الحرية، وكذا في عدم التدخل في شؤونه الداخلية، وحقه في إيجاد حل سلمي مقبول للأزمة التي يتخبط فيها، وهذا باعتراف العديد من الأطراف، وقد فضلت الجزائر دائما الحل العربي للأزمة السورية ودفعت كثيرا في هذا الاتجاه، رغم مواقف بعض الدول العربية التي كانت تفضل تدويل الملف السوري، معلنة عن دعمها لجهود المبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي. كما يبرز موقفها الثابت إزاء العديد من القضايا المحورية، على غرار القضية الفلسطينية، معربة عن ارتياحها الكبير بعد تصويت الجمعية العامة بالدولة الفلسطينية كعضو غير دائم، إلى جانب حرصها على مساندة خيار الشعب الصحراوي في تقرير مصيره.
دور فعال في ترقية السلم والأمن في العالم من جهة أخرى، تترجم الزيارات التي قامت بها وفود أجنبية على أعلى مستوى الإحترام الذي تحظى به الجزائر، لدورها الفعال في سبيل ترقية السلم والأمن في كل مناطق العالم، وللفرص الأكيدة التي يوفرها اقتصادها لتطوير علاقات تعاون قوية تخدم المصلحة المتبادلة مع شركائها، في ظل وجود المخطط الخماسي الحالي الذي فتح شهية العديد من المؤسسات العالمية، كما سجلت بدورها أيضا حضورها المتميز في أغلب المحافل الدولية. وفي إطار الحركية الدبلوماسية التي شهدتها البلاد، نذكر الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء المصري هشام قنديل، رئيس الحكومة التونسية حمادي الجبالي ورئيس الحكومة الليبية علي زيدان إلى الجزائر في سياق تعزيز علاقات الشراكة والتعاون الثنائي، كما أولت الجزائر اهتمامها بالمنطقة المغاربية من خلال تجديد تمسكها بخيار اتحاد المغرب العربي وتطوير علاقاتها مع دوله. ولعل الزيارة التي قام بها مؤخرا وزير الداخلية والجماعات المحلية السيد دحو ولد قابلية إلى تونس، تشكل إطارا جديدا لتعزيز التعاون الأمني وتفعيل التنمية الإجتماعية، علما أن ولاة الولاياتالجزائرية الحدودية ونظراءهم التونسيين قد اجتمعوا على هامش هذه الزيارة، من أجل التشاور حول الآليات و الميكانيزمات الكفيلة بضمان تنمية جهوية حدودية وحل المعضلات التي يعاني منها سكان هذه المناطق في الجانب الجزائريوالتونسي على حد سواء. ويمكن القول إن مواقف الجزائر الدبلوماسية تمتد جذورها إلى ما قبل الإستقلال من أجل النضال والتحرر، في الوقت الذي يرى فيه أهل الإختصاص أن الدبلوماسية الجزائرية التي يفتخر بها الشعب الجزائري تحتم على المشرفين عليها الاستمرار في نفس المسيرة في المستقبل، لكن بطموحات أكثر وباستغلال الخبرات في هذا المجال، مع الأخذ بعين الاعتبار التحولات الكبيرة في العالم، والتي تحتم التأقلم معها.