المتتبع لأطوار الحرب في مالي والتقدم السهل الذي حققته قوات النخبة الفرنسية طيلة ثلاثة أسابيع منذ اتخاذ باريس قرار التدخل في هذا البلد يعطي الاعتقاد بأن مبررات الحرب وهمية وأن أهداف هذا التدخل شيء آخر تماما. فلا يعقل أن تزحف هذه القوات في مساحة تعادل ضعف مساحة فرنسا دون أن تلقى مقاومة ولو رمزية من تنظيمات تردد أن تعداد مقاتليها يعد بالآلاف مدججين بترسانة حربية متطورة ويمتلكون علاقات وطيدة مع القبائل التي احتضنتهم وتمرسوا على القتال في بيئة أصبحت جزءا منهم. وقد اعتقد الجميع أن القوات الفرنسية وضعت نفسها فعلا في مستنقع شبهه البعض ب "أفغانستان ثانية" بعد أن تورطت في مجاهل وضع أسراره أكثر مما هو ظاهر منه قبل أن يسقط كل شيء في الماء -كما يقال- بعد أن وصلت الوحدات الفرنسية مدينة غاو على بعد 1200 كلم من العاصمة باماكو وهي الآن تمهد للاستيلاء على مدينة تومبوكتو في انتظار مدينة كيدال ليكتمل بذلك سقوط حلقات التواجد الإرهابي في هذا الجزء من الأراضي المالية. والمفارقة أن الزحف المتواصل للوحدات الفرنسية تواصل دون أن يصاب ولو جندي أو دبابة واحدة وكأنهم في نزهة سياسية في صحراء يكتشفونها لأول مرة وسحروا بمناظرها الجديدة عليهم. لكن الكثير من المتتبعين ما انفكوا يؤكدون أن سهولة استعادة المدن المالية الثلاث التي سقطت تباعا بين أيدي مقاتلي التنظيمات الإرهابية مسألة ظرفية فقط وأن الأمور الجدية لم يحن أوانها وأن هذه التنظيمات إنما انسحب عناصرها عن قصد لقناعتهم المسبقة بأن الحرب المفتوحة لن يقدروا عليها وأن تكتيكات المواجهة ستحددها الأيام القادمة عندما تبلغ القوات الفرنسية والإفريقية المناطق الجبلية في مناطق الأزواد النائية التي اتخذوها معاقل وتحصينات. والمؤكد أن القوات الفرنسية تدرك ذلك جيدا وهو ما يفسر تقدمها لوحدها انطلاقا من باماكو إلى سيفاري إلى موبتي وديابالي ووصولا إلى مدن غاو وكيدال في انتظار مدينة تومبوكتو وهو أيضا ما يفسر الإلحاح الفرنسي على الدول الإفريقية للإسراع في إرسال وحداتها لدعم نظيرتها المالية لاستعادة سيادتها المفقودة على أكثر من نصف أراضيها. وعندما نعلم أن السلطات الفرنسية عندما وضعت مبدأ "صفر ضحية" في حرب عصابات شرسة كانت تدرك ما تقول وهو ما جعلها تلتزم منذ البداية بتمكين القوات المالية من بدء الهجوم على أن تتحول قوتها إلى قوة تدريب لا أكثر ولا اقل وأنه عندما تحين ساعة الحقيقة فإنها تبقى في موقع الموجه والمخطط لطريقة الحرب وأساليبها القتالية بما يتماشى وحرب العصابات التي تعتمدها التنظيمات الإرهابية كعقيدة قتالية لها. وتكون القوات الفرنسية قد فهمت مثل هذا الأمر وهي لأجل ذلك ستلتزم الحيطة والحذر في كل خطوة تخطوها في طريق مسيرتها نحو معاقل هذه التنظيمات في المناطق الجبلية، حيث الكمائن والهجمات الخاطفة والعمليات الانتحارية. ولا يستبعد نتيجة لذلك أن تكون منطقة كيدال في أقصى الشمال المنعرج في حرب المواجهة المفتوحة بين القوات الإفريقية والتنظيمات الإرهابية، خاصة إذا سلمنا بالأخبار التي تواترت في اليومين الأخيرين بأن إياد آغ غالي، قائد جماعة أنصار الدين، الذي دمر منزله في المدينة وأبو زيد أحد أمراء تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي لجأ فعلا إلى هذه المنطقة بعد أن استشعرا خطورة بقائهما هناك. وحتى وإن صعب التكهن بالسيرورة التي ستعرفها هذه المواجهة فإن المؤكد أنها ستطول ولا أحد بإمكانه التكهن بنهايتها. وهي الحقيقة التي تكرست في كل النزاعات المشابهة رغم أن الرئيس فرانسوا هولاند وكل المسؤولين الفرنسيين ما انفكوا يؤكدون أنهم لم يأتوا ليبقوا في مالي، لكن ذلك لا يعدو أن يكون سوى موقف فرضه الوضع على اعتبار أن ما تخفيه الأحداث هو الذي سيفرض على فرنسا كيفية التعاطي مع وضع لا أحد بإمكانه التكهن بنهايته.