ما زلت أحلم بقراءة رواية نهرية تؤرخ لبلادنا منذ أن هبط الاستعمار الفرنسي بشبه جزيرة سيدي فرج عام 1830 إلى أن خرج منها مذموما مدحورا. والسبب هو أن ما يشبه شعورا بالغيرة يتملكني كلما قرأت روايات نهرية تؤرخ لهذه الثورة أوتلك، أو لهذا البلد أو ذاك عبر العالم.حين قرأت ثلاثية نجيب محفوظ عن ثورة 1919 في مصر، قلت في نفسي: هذا عمل أدبي تاريخي جليل! وعندما طالعت رواية ”الدون الهادىء” لميخائيل شولوخوف، قلت نفس الكلام الذي قلته عن رواية ”الحرب والسلم” لليون تولستوي وعن رواية ”آل ثيبو” لروجي مارتان دوجارد التي أرخ فيها للحرب العالمية الأولى. فنحن ما زلنا نعيش بعقلية تجاوزها الزمن كلما فكرنا في تاريخ الثورة الجزائرية على سبيل المثال. لا يكاد أحد يتلفظ بكلام عنها حتى يجيء من يقف في وجهه وينبهه إلى أن الدماء لم تجف بعد، وأنه من الصعب أن نتحدث عن مشاعر الناس وأحاسيسهم بحكم أن الذين عرفوا تلك الثورة واصطلوا بنارها ما زالوا على قيد الحياة، ومن ثم، فإنه من الممكن أن تظهر حزازات جديدة نحن في غنى عنها. الفن الروائي هو الذي يمكن أن يفتح دوننا السبيل لكي نتحدث عن بعض المحرمات السياسية إن صح التعبير، ومنها تلك التي لها علاقة وطيدة بتاريخ ثورتنا. فالكاتب يستطيع أن يموه على الأسماء دون أن ينال شيئا من تسلسل الأحداث ومن صدقيتها. ويمكن أن يضيف الكثير من عندياته إن هو أحسن استعمال قدرات التخييل في أعماقه. وذلك ما حدث بالفعل في دنيا الأدب الروائي حين أرخ غارسيا ماركيز لبلاده في النصف الأول من القرن العشرين مستخدما ما يسمى اليوم بالواقعية السحرية، ونفس الشيء فعله الكاتب البيروفي ماريوفارجاس يوسا حين وضع روايته الضخمة ”حرب نهاية العالم”، وما فعله وليام فولكنر في العديد من رواياته حين أرخ للحرب الأهلية في أمريكا وما أحدثته من تغيير جذري في المجتمع الأمريكي برمته. المهم في الأمر كله هو أن يحسن الكاتب الروائي توظيف خياله دون أن يتجنى على الواقع التاريخي. طلب مني أحد السينمائيين في يوم من الأيام أن أكتب له سيناريو عن واقعة تاريخية حدثت خلال الثورة الجزائرية. وشرعت في الكتابة فعلا، غير أنني تفطنت إلى أن الموضوع صعب ومعقد جدا، ذلك لأن الذين كانوا وراء تلك الواقعة ما زالوا على قيد الحياة، ومن ثم، فإن كل واحد يشعر بأن له الحق في الإدلاء بدلوه في الموضوع. وانتهى بي الأمر إلى أن أتوقف عن كتابة السيناريو المطلوب، وأن أمتنع عن معالجة كل واقعة تاريخية مازال أصحابها أحياء يرزقون. غير أنني اقتنعت في مقابل ذاك بأن الخيال الروائي يمكن أن يساعد الكاتب والقارىء معا على رصد جوانب كثيرة من حياتنا السياسية والاجتماعية حتى وإن كان الأبطال الذين يصورهم هذا الكاتب على قيد الحياة. وذلك ما فعلته في روايتي ”يحدث ما لا يحدث” التي رصدت فيها جانبا من الحياة السياسية الجزائرية في تسعينات القرن المنصرم. أحسب أنني قلت الشيء الكثير عن تلك الفترة المظلمة الدامية من تاريخنا دون أن أنال من الحقيقة التاريخية ودون أن أتعرض لهذا أوذاك بسوء. المطلوب من الروائيين هو أن يدلوا بدلائهم في هذا البحر الزاخر، فهم البوابة الأولى التي تفسح لنا المجال لكي نطلع على الكثير من حقائقنا التاريخية دون أن يشعر أحد بأنهم غمطوه حقه. وإني لأتساءل الآن عن فتح الملفات التاريخية بين فرنسا والجزائر: هل يا ترى سنحسن استخدامها؟ وهل يا ترانا سنتجاوز مرحلة كتابة تاريخنا بنفس المنطق الذي ساد إلى يومنا هذا، أي من زاوية ثورية فحسب، وننتقل حقا وصدقا إلى مرحلة جديدة هي مرحلة التاريخ الحقيقي بمعناه العلمي الواسع؟