غيرت إسرائيل تكتيكات تعاملها مع الدول العربية، بكيفية أرادت من خلالها فرض منطقها المتعالي الرافض لكل العروض التي أصبحت الجامعة العربية تتودد لديها لقبول مبادرتها للسلام التي ولدت ميتة، بعد أن تجاهلتها حكومات الاحتلال منذ 2002. وكلما قدم العرب عرضا، إلا ورفعت إسرائيل سقف مطالبها وكأنها الضحية والدول العربية هي المحتل، عندما طالبتهم أمس بالاعتراف بها كدولة يهودية. وهي الخرجة الجديدة التي أكد عليها الوزير الأول بنيامين نتانياهو أمس، عندما قال إن الصراع مع الفلسطينيين ليس له علاقة بالأرض، بقدر ما هو صراع حول الاعتراف بيهودية إسرائيل. ومن موقع المعتدي الرافض لكل فكرة لتحقيق السلام، ألقى نتانياهو بمسؤولية الفشل في تحقيق هذا السلام الوهم إلى ما أسماه بافتقاد الفلسطينيين لإرادة الاعتراف بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي، هو الأمر كما زعم الذي عرقل تحقيق السلام على اعتبار أن جذور الصراع دينية وليست مرتبطة بالأرض. وتعد هذه لغة جديدة في منطق التعامل الإسرائيلي مع الفلسطينيين والعرب جميعا، مع أنها كانت تتعامل معهم وإلى وقت قريب بمنطق الباحث عن أرض "لشعب بلا أرض"، مقابل السلام واللائحة الأممية 242 وبحدود جوان 1967. وتكون إسرائيل بذلك قد نجحت نجاحا باهرا، بعد أن اعتمدت سياسة الخطوة خطوة في تعاملها مع العرب، معتمدة في ذلك منطقا ابتزازيا مدروسا بإتقان حتى تضمن ما تريد. وبفضل منطقها الرافض لكل الحلول، تكون إسرائيل قد وضعت العرب في موقع الضعيف غير القادر على تمرير ولو مقترحا واحدا، مع أنهم قدموا كل التنازلات ولكنهم مطالبون وفق منطق نتانياهو بتكييف مبادرتهم للسلام التي كانت شكلت أكبر تنازل، عندما أقروا بحق إسرائيل في الوجود، مقابل اعترافها بدولة فلسطينية على أراضي الرابع جوان 1967. والمفارقة، أن الرد الإسرائيلي على هذه المبادرة جاء شهرا بعد قمة الجامعة العربية التي قررت بعث الروح في مبادرتها، دون أن تكون تدرك أن حكومة الاحتلال أسقطتها من حساباتها وأنه يتعين عليهم تكييفها وفق المنطق الإسرائيلي الجديد. وهو ما جعل الوزير الأول يرفض بطريقة "دبلوماسية"، ولكن بكثير من التعالي ومنطق الأمر الواقع المبادرة العربية وقال إنه مستعد لاستئناف المفاوضات "دون شروط مسبقة"، وهي طريقة ذكية أيضا، ليضع شروطه المسبقة ويحرمها على العرب. وقد اختار نتانياهو توقيتا مناسبا لإصدار تصريحاته لقطع الطريق أمام تحركات الوفد العربي الذي سينتقل إلى الولاياتالمتحدة للقاء وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، في محاولة أخرى يائسة لتسويق مضمون المبادرة العربية. ولكن السؤال الذي يطرح بعد موقف نتانياهو، هل أصبح من المجدي للوفد العربي التوجه إلى واشنطن مادامت إسرائيل قد ألقت بالكرة في معسكر الجامعة العربية مطالبة دولها بمزيد من التنازل؟ ولكن التنازل هذه المرة جوهري، لأنه سيقلب الصراع من مسألة وجود وحدود إلى صراع يحمل نزعة دينية عنصرية فضحت حقيقة الفكر الصهيوني منذ إقامة دولة الاحتلال في قلب الوطن الإسلامي قبل قرابة سبعين عاما. وعندما نعلم أن إسرائيل اشترطت على العرب الاعتراف بيهودية دولة الاحتلال، فإنها بذلك قد وضعت ضوابط وجوهر حقيقة الصراع التاريخي بين المسلمين واليهود، والذي أرادت حكومات الاحتلال ومنظري إنشائها التكتم عليه، ولكنها وجدت الآن وبعد التنازلات العربية المتلاحقة الفرصة مواتية لقول ذلك علنا ودون مواربة، وهي ربما مدركة أن العرب سيقبلون شروطها تماما كما قبلوا شروطها القديمة والتي كان قبولها يبدو وكأنه مستحيلا. والمؤكد، أنّ إسرائيل بقدر ما هي تراهن على قوتها العسكرية والدعم الأمريكي والغربي عموما لها لفرض أطروحاتها، فإنها تراهن أيضا على عامل الوقت لتجعل العرب يتكيفون ليقبلوا في النهاية بما كان مخططا له منذ وعد بلفور سنة 1917. ووفق هذه الأطروحات، فإن إسرائيل تريد من وراء فكرة "اليهودية" التي تتبنى منطق إقامة دولة مبنية على طهارة العرق، التي سعى النازي ادولف هتلر تجسيدها انطلاقا من فلسفة هوبز ونيتشه حتى تجعل من إسرائيل دولة دينية بمقدساتها وتراثها التاريخي. وهي أفكار إن تجسدت ستضرب المقدسات الإسلامية في الصميم، مادام ذلك سيؤدي إلى إرغام فلسطيني الخط الأخضر على التنازل عن فلسطينيتهم والاختيار بين أن يكونوا مواطنين يهود أو مجرد غرباء مهاجرين سيتم طردهم واحدا واحدا وعائلة عائلة مع أنهم استوطنوا الأرض أبا عن جد منذ الحضارة الكنعانية. ويمكن القول أن رضوخ العرب للمنطق العنصري الإسرائيلي، يعني أنهم ضحوا بمستقبل حوالي 2 مليون فلسطيني الذين يقاومون الاحتلال في داخل حدود فلسطين التاريخية، وأنهم رضخوا فعلا لإسرائيل وأمّا القدس الشريف وقبة الصخرة وحائط البراق، فهي تحصيل حاصل، وحينها فلن يكون للفلسطينيين أن يستظهروا مفاتيح منازلهم التي احتفظوا بها منذ أجيال وحلمهم العودة إلى مسقط الرأس، لأنها ستكون غير ذات معنى مادام العرب قد استكانوا وفرطوا في كل شيء وتلك هي مأساتنا.