رأيت نفسي فيما يرى النائم مساعدا لأحد الباعة المتجولين في حينا، يدفع عربة يتدلى منها دلو به ماء عكر بعض الشيء وضع فيه نصلا بلا مقبض يعود تاريخ صنعه إلى ما قبل الاحتلال، قطعة تراثية ثمينة نادرة، بعد انتهاء موسم الهندي (التين الشوكي) ينظفه ويلفه في خرقة ثم يدسه في مكان آمن بعيد عن الأيدي والأنظار إلى أن يحين الموسم التالي.. كان يبيع حبة الهندي أيام كنت صغيرا بعشرين سنتيما ثم أخذ يزيد في سعرها كل فصل، حتى أن بعضهم قال أنه يزيد في سعرها كل يوم إلى أن بلغ ثمنها ألف سنتيم، وذلك تبعا لتكاليف الجني كما ادعى وتجديد وتطوير العربة.. كانت مهمتي كمساعد لعمي “العيفة “ تتمثل في الترويج والتبراح للسلعة : هندي أحلى من السكر.. هندي عسل حر.. الهندي والموس من عندي.. هندي بلا شوك، وما إن يقترب زبون حتى أقشر له حبة وأقدمها له كمن يكشف على صدفة ثمينة نادرة، فيتذوق جزءا منها وأكمل أنا الباقي، عمي “العيفة” لا يقترب من الهندي، لا يمس شيئا، وكان إذا هبت ريح غير الرصيف حتى لا تحمل له الريح أشواك الهندي فتصيبه ببعضها، كنت أقشر للزبائن بدون قفاز، فتنتقل سحائب الشوك إلى يدي ووجهي، وكلما حككت موضعا انغرز أكثر واستحال نزعه والتخلص منه فيزداد بذلك الألم والحريق والحك والالتهاب.. كل فصل أعيش التجربة نفسها، ولما ثبت في منصبي كمساعد رسمي بت أعمل يوميا على مدار السنة وأذوق الالتهاب كل يوم وكل ساعة، هذا ما جناه علي عمي “العيفة” قبول المهمة كمساعد ليس اختياريا بل هو إجباري بدوافع اجتماعية وأحيانا وطنية أو حزبية حسب الظروف ومشيئة الأحلام وريحها... الهندي والموس من عندي.. الهندي... قصف رعد مخيف هز أركان المحيط وكاد يقلب عربة عمي العيفة، وتجرفها السيول المفاجئة.. لا سقف يحميها ولا مظلة، البرد يقطع أوصالنا والماء ينفذ إلى ملابسنا الداخلية.. قال أحد المارة في نظرة احتقار: وهل الهندي في الشتاء؟ وكأنما صفعني بسخريته هذه، فالتفت لنفسي فوجدتني أرثي لحالي وأتقزز، رميت النصل ودفعت عربة الهندي نحو الهاوية، دون ان ألتفت إلى عمي العيفة أو أشتمه. ولما استيقظت من أشواك هذا الكابوس، ورويت الحلم على أحد الأقارب رغم أنه لا يملك أدنى علم بتعبير الأحلام، إلا أنه قال بأن الفاكهة في غير فصلها لا تبشر بخير، غير أنك نجوت من أشواك الهندي.