لم يؤسس جيش التحرير الوطني بمرسوم أو قرار فوقي، بل خرج من رحم المعاناة التي ألمت بالشعب الجزائْري جراء الاستعمار الفرنسي، وكذا الظروف المحيطة بالثورة والاستراتجية التي اعتمدتها لبلوغ هدفها المتمثل في الاستقلال الوطني فتكون جيش التحرير الوطني من عناصر مؤمنة بالكفاح المسلح، عرفت كيف تستفيد من تجارب وتقاليد شعبها التواق للحرية، وقد أخذ قادة الثورة على عاتقهم مسؤولية وضع هياكل لجيش وطني تحريري، وذلك بتشكيل مجموعات صغيرة قادرة على خوض حرب عصابات تبعا لظروف المعركة التي كان ينبغي خوضها ضد الجيش الاستعماري، الذي كان متفوقا عدة وعددا. كان السند الشعبي المتعاظم الذي لقيه جيش التحرير الوطني، وازدياد عدد المنخرطين في صفوفه إيمانا بالثورة ودفاعا عن الوطن، قد مكنه من متابعة مسيرة الكفاح وبدأ في تحسين وتطوير هياكله بصفة تدريجية وفقا لمعطيات الحرب حتى حلول تاريخ 20 أوت 1956، حيث انعقد مؤتمر الصومام وتم إعداد قاعدة صلبة لهذا الجيش، حيث تم تشكيل وتنظيم بنيته ومعداته حسب مقتضيات المرحلة الجديدة في مسيرة الثورة مما أعطى دينامكية للثورة المسلحة ومكن من رفع فعالية وحداته بشكل محسوس وقد تجلت هذه الفعالية بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة من الحرب، خاصة بعد تزويده بمعدات وأسلحة متطورة ساهمت بقدر كبير في حسم المعركة لصالحه ضد الجيش الاستعماري وتحقيق الاستقلال الوطني. ومع إنجاز جيش التحرير لمهمته التي توجت بالاستقلال الوطني وحتمية تكوين جيش نظامي قادر على حماية هذا المكسب، أعلن عن تحوير جيش التحرير إلى الجيش الوطني الشعبي في الأيام الأولى للاستقلال وذلك بهدف وضع تشكيلاته تحت سلطة مركزية واحدة. اضطلع الجيش الوطني الشعبي بمهامه وذلك بمشاركته الفعالة في المشروع الوطني الهادف إلى استكمال الاستقلال في جميع ميادين النشاط، حيث قام بسد شغور المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية وتطهير الحدود الشرقية والغربية من الألغام الممتدة على خطي شال وموريس وإزالة آثار الحرب المدمرة وبناء مرافق الخدمات وتقريبها من المواطنين لفك العزلة عنهم ورسم الحدود مع الدول المجاورة وتأمين سلامتها كما كان يهدف الجيش الوطني الشعبي من وراء مسيرة الرحلة الطويلة التي لم تخل من المشاق للقضاء على مخلفات قرن وثلث قرن من الاضطهاد والتعسف في أبشع صوره وبالموازاة مع هذه المهمة لم يتوان الجيش الوطني الشعبي في الاهتمام بالتكوين العسكري وتدعيم قدراته القتالية، فلم تمض السنة الأولى على الاستقلال حتى ظهرت إلى الوجود قيادة الدرك الوطني في أوت 1962 ومصلحة الإشارة في 15 سبتمبر 1962 كما عين وزير الدفاع في 27 سبتمبر 1962 وفي أكتوبر 1962 وصلت إلى الجزائر وحدة صغيرة من الطائرات العمودية كما وصلت في نفس الشهر مجموعة من الطائرات المقاتلة، في هذا الإطار شرع في إنشاء هياكل التكوين والتدريب وإرسال البعثات إلى الدول الشقيقة والصديقة لتتحرج من كبريات المدارس والمعاهد في مختلف التخصصات مشكلة بذلك أولى الطلائع التي ستؤطر الجيش الوطني الشعبي وتطوره تنظيما وتسليحا ولما ضبط إطار التكوين وبدأت المدارس تظهر إلى الوجود كمدرسة أشبال الثورة في ماي 1963 والكلية العسكرية لمختلف الأسلحة بشرشال في جوان 1963، ثم تلاها إنشاء هياكل التكوين الأخرى في مختلف الأسلحة بما يستجيب لمتطلبات الجيوش الحديثة والتقنيات العسكرية المعاصرة والتزويد بالأسلحة والتجهيزات المتطورة، أخذت جموع الشباب تتدفق للانخراط في صفوف الجيش الوطني الشعبي، خاصة في الأسلحة التقنية مثل الطيران، البحرية، الهندسة العسكرية، الإشارة ... وغيرها. بدأت ثمار التكوين تؤتي أكلها وأخذت الدفعات تتخرج الواحدة تلو الأخرى في الداخل والخارج وبدأ الجيش يكبر وتشكيلاته تبرز إلى الوجود، فأصبح في حاجة إلى الاختصاصيين في ميدان النقل والإدارة والقضاء وبدأت هياكل التكوين في الاتساع، حيث تم إنشاء مدرسة النقل العسكري في مارس 1963، مدرسة الدرك الوطني بسيدي بلعباس في 27 مارس 1964وصدر مرسوم قانون القضاء العسكري في 22 أوت 1964 وعندما حلت سنة 1965تم إنشاء المدرسة الوطنية للسلاح المضاد للطيران بالرغاية وبتاريخ 15سبتمبر 1965 تم فتح المدرسة التكتيكية للعتاد العسكري تلتها مدرسة الصحة العسكرية في 11 نوفمبر 1965 وكذا مركز التدريب ببوغار، كما أنشئت المدرسة الفنية للملاحة الجوية بالبليدة في 1965.
عودة المتربصين لدعم منظومة التكوين والتدريب وفي سنة 1966 شهد الجيش الوطني الشعبي رجوع عدة دفعات من المتربصين في الخارج كان لها الفضل في دعم منظومة التكوين والتدريب في الجيش الذي كان دائما على أهبة الاستعداد للوقوف إلى جانب الأشقاء في كل أزمة تحل بهم. فبالرغم من الأعمال الجليلة التي قام بها جيشنا على المستوى الوطني، فقد تقاسم أعباء المصير المشترك مع الأشقاء العرب بعد نكسة 05 جوان 1967 إثر العدوان الإسرائيلي على مصر، حيث هب الجيش الوطني الشعبي لنجدتها وتحركت الطلائع الأولى إلى أرض المعركة، وأبلوا بلاء حسنا.
الخدمة الوطنية،، تجنيد طاقات وتحقيق إنجازات لقد تعززت صفوف الجيش الوطني الشعبي بعد سن قانون الخدمة الوطنية في 16 أفريل 1968 بطاقات شبانية أعطت دفعا جديدا لقواتنا المسلحة وبذلك صارت هذه المؤسسة تمثل تنظيما جديدا ونمطا أصيلا في استعمال الموارد البشرية، بغية المساهمة في التنمية الوطنية وتدعيم الجبهة الدفاعية كما أضحت الخدمة الوطنية خزانا يمد الجيش بالإطارات الكفأة في هذا المضمار، بعد سنة من ذلك تم في أفريل 1969 التحاق الطلائع الأولى من المجندين بصفة رسمية، وتوالت الدفعات تباعا من جميع الشرائح الشعبية لتعزيز قوات الجيش العاملة، وقد تعددت الانجازات التي قام بها شباب الخدمة الوطنية، خاصة الدفعات الأولى التي ساهمت في تحقيق عدة مشاريع كالمخطط الرباعي الأول ومشاريع البرامج الخاصة بالتنمية في المناطق الريفية والفقيرة وقد تمثلت هذه الانجازات، في بناء القرى النموذجية ومختلف مرافقها الحيوية، بناء السدود الجديدة وإصلاح القديمة منها، شق الطرق، حفر الآبار ومد الأنابيب، مد الأسلاك وأعمدة الكهرباء والهاتف وفك العزلة على المناطق النائية وبناء المدارس والثانويات والجامعات والمطارات المدنية في مختلف جهات الوطن خاصة بالمدن الجنوبية، شق الطرق السريعة وخطوط السكة الحديدية، أبرزها طريق الوحدة الإفريقية والسد الأخضر وتجسيد مشروع الألف قرية قصد إعادة التوازن بين المدن والأرياف والحد من ظاهرة النزوح الريفي.
مكافحة الإرهاب واجه الجيش الوطني الشعبي، منذ مطلع التسعينيات، عدوا لا يقل خطورة عن الأول، وهو الإرهاب الهمجي، الذي تمارسه جماعات تمردت على القيم والشرائع السماوية والأعراف والقوانين الوضعية بالتواطؤ مع قوى الشر في الداخل والخارج وقد أثبت الجيش الوطني الشعبي ومن حوله من القوى الوطنية الحية خلال عقد كامل من مكافحة الإرهاب وفاءه لرسالة الشهداء، حيث حافظ على الدولة الجمهورية ومؤسساتها من الانهيار، وهذا بفضل صمود أفراد قواتنا المسلحة وتحليهم بالروح الانضباطية العالية والسلوك العسكري القويم والانسجام ووحدة الصف، التي راهن الأعداء على تفكيكها.
تحديث وعصرنة تماشيا مع التطورات التنظيمية والتقنية التي تعرفها الجيوش العالمية، كان حرص القيادة دوما على تحديث قواتنا المسلحة وعصرنتها حتى تكون في مستوى المهمة الوطنية المقدسة المنوطة بها وذلك ابتداء من سنة 1976، حيث أصبحت وحداتنا مجهزة بآليات ”ممكننة”، ومن ثم يمكن القول بأن عصرنة الجيش قد بدأت من هذا التاريخ مع إدخال وسائل قتال متحركة ولم تقتصر العصرنة على عامل العتاد بل كان التنظيم والتكوين والتدريب محل اهتمام وانشغال القيادة. ومن ثم كان إنشاء أركان الجيش الوطني الشعبي في 28 /11 /1984 وإنشاء القوات البرية في 03 /05/ 1986 ثم إنشاء القوات البحرية، القوات الجوية، المفتشية العامة للجيش ومندوبية الدفاع الشعبي 27 /10 /1986 وأعيد تشكيل وهيكلة القوات بالحجم الذي يؤمّن القيام بنشاطات عملياتية، وقد شهدت سنوات الثمانينات أعمالا تنظيمية كبيرة مست مختلف القوات انطلاقا من دراسة ميدانية عميقة تم استخلاصها خلال سنوات طويلة من العمل العسكري المتواصل الذي أدخل تحسينات نوعية على المورد البشري من حيث مستواه التكويني النظري والتطبيقي، وفي سنة 1987 أعيد تنظيم عدة مديريات بوزارة الدفاع الوطني، كما أنشئت في 05 ديسمبر 1986 قيادة الدفاع الجوي عن الإقليم، وبذلك اكتمل بناء الجيش الوطني الشعبي بهياكله وفروعه، وتم في أكتوبر 1985 إنشاء المدرسة التطبيقية للدفاع الجوي عن الإقليم، ثم تلتها المدرسة العليا للدفاع الجوي عن الإقليم، المدرسة العليا للدرك الوطني بيسر وكذلك المدرسة التطبيقية للهندسة ببجاية والمدرسة التطبيقية للإشارة بالقليعة وفي عام 1998 أسست المدرسة الوطنية التحضيرية لدراسات مهندس، إلى جانب تجديد وعصرنة بعض العتاد لمختلف القوات، حيث مس القوات الثلاث وهي القاعدة المركزية للإمداد ببني مراد (القوات البرية)، مؤسسة البناء والتصليح البحري بمرسى الكبير (القوات البحرية) ومؤسسة صناعة الطائرات بطفراوي (القوات الجوية) ويبقى اقتحام السوق الدولية من أهداف المؤسسة (خاصة السوق الإفريقية) إذ أصبحت منتوجاتها تجلب اهتمام دول عديدة. ويمكن حصر هذه الأرضية الصناعية العسكرية في بروز مؤسستين صناعيتين هما مؤسسة البناءات الميكانيكية ومؤسسة الإنجازات الصناعية أسندت للأولى مهمة صناعة الأسلحة الخفيفة، تلبية لاحتياجات الدفاع الوطني والتقليل من التبعية الخارجية، والثانية تختص بإنتاج الذخيرة من العيار الصغير بكل مكوناته كما يتعدى نشاطها إلى مجالات أخرى كإنتاج القطع والأدوات الموجهة لصناعة منتوجات عسكرية ومدنية، زيادة على صناعة الشارات، الرتب، الأوسمة العسكرية وشبه العسكرية، الأوسمة التذكارية، الميداليات، وتقوم بصناعة مثبتات خارجية لعظام الأطراف العليا والسفلى في إطار تعاملها مع المستشفى المركزي للجيش وبعض المراكز الاستشفائية الجامعية، إلى جانب الديوان الوطني للمواد المتفجرة ومؤسسة الصناعات الميكانيكية ووحدة الألبسة والتأثيث ومؤسسة الملابس والأحذية.
الاتصال والتعاون الخارجي كان لزاما على الجيش الوطني الشعبي التفكير في سياسة إعلامية جديدة مواكبة للتطورات الحاصلة، فالخطابات التي استهدفت المؤسسة العسكرية ما فتئت تتنامى متخذة من بعض العناوين الصحفية قنوات للترويج لأفكار غريبة وخاطئة، فيتم استحداث خلايا اتصال بإمكانها مواجهة مختلف الحملات المغرضة التي تستهدف المؤسسة العسكرية وتسعى إلى تشويه صورتها كما انخرطت الجزائر في مارس 2000 للتعاون مع الدول الشقيقة والصديقة لتنويع الشراكة في الحوار المتوسطي لحلف شمال الأطلسي، كما شهد تعاون الجيش الوطني الشعبي مع الجيوش الأجنبية تطورا ملحوظا خلال السنوات الأخيرة وتبرز الزيارات التي قامت بها الوفود العسكرية من دول مختلفة إلى الجزائر وكذا الزيارات التي قادت عسكريين جزائريين إلى عدة دول مدى حرص الجزائر على تطوير علاقات التعاون بين جيشها وجيوش مختلف الدول ومع حلف شمال الأطلسي.
الاحترافية... خيار استراتيجي لقد فرضت عدة عوامل الانتقال إلى الاحترافية منها السياق الجيواستراتيجي وبروز نزاعات وبؤر توتر جديدة لأسباب إثنية، اجتماعية وسياسية، مما أدى إلى ظهور حركات إرهابية وتعرض بعض الأقطار لحروب أهلية منذ زوال المواجهة المستمرة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وهذا ما أدى إلى مضاعفة مناطق النزاعات التي أصبحت تهدد الأمن على المستويين الإقليمي والدولي وكذا التطور التكنولوجي في مجال الأسلحة على غرار العتاد العسكري ”الذكي” الذي يبقي بمثابة عنصر ضروري لإنجاح أية مهمة عسكرية كما أن دخول الجزائر عهد التعددية الحزبية، وندرة الموارد المالية والتجارب المستقاة من الخدمة الوطنية خلال العشريات الثلاث السابقة، تشكل عوامل تستدعي وجوب تكيف الجيش مع هذا الوضع الجديد وتدعيم قدراته العملياتية وتحديث وعصرنة العتاد والأجهزة المستخدمة.