عندما أدان الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، عمليات التنصت الأمريكية على بلاده ونعتها ب«الممارسات غير المقبولة" وقالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن "التجسس بين الأصدقاء لا يصح"، شدد رئيس الحكومة الايطالية اونريكو ليتا على تقديم واشنطن "لكل الحقيقة"، يتساءل الكل عما يمكن للدول الأوروبية فعله للرد على جرأة "شقيق أكبر" تجاوز كل حدود اللباقة. خيمت فضيحة التنصت التي قام بها جواسيس وكالة المخابرات الأمريكية على قادة الدول الأوروبية، أمس، على مناقشات هؤلاء حول الكيفية التي يتعين عليهم التعاطي بها مع حليف أمريكي لا يتوانى في استخدام كل الطرق لحماية مصالحه. والمفارقة أن الكشف عن هذه الفضيحة جاء عشية انعقاد قمة القادة الأوروبيين مما جعلهم يكرسون أشغال اجتماعهم لكيفية التعامل مع هذه الفضيحة التي عكرت أجواء علاقات حلفاء فيما بين ضفتي الأطلنطي. والمفارقة أن الضجة التي أثيرت بين الدول الغربية جميعها جاءت وقد بدت علاقات دوله وكأنها موحدة ومتينة الى درجة لا يمكن الشك في قوتها وصمودها أمام أية هزة مهما كانت قوتها. ولكن عندما بلغ الأمر إلى حدد تجسس واشنطن على قادة هذه الدول الذين شعروا أنهم أهينوا في كرامتهم ما كان لهم أن يتكتموا على فضيحة مرشحة لأن تعرف تطورات قادمة خاصة وأن صاحب هذه التسريبات هو العميل السابق "ادوارد سنودن" الذي لم يعد للولايات المتحدة اية سلطة عليه عندما فضل اللجوء عند خصم وغريم سياسي واقتصادي بحجم روسيا التي تريد أن تعود إلى الواجهة كقوة دولية فاعلة والتي لا يستبعد أن تستغل "كنزه الاستعلاماتي" كورقة ضغط على دول ما وراء الاورال. وخيمت الضبابية على علاقات واشنطن ومختلف الدول الغربية التي أصرت في ختام أول يوم من قمتها بالعاصمة البلجيكية مطالبتها بتقديم "توضيحات" حول حقيقة ودرجة التنصت التي لم تستثن أحدا منهم وجعلتهم يشعرون أنهم لم يعودوا في مأمن حتى في قصورهم الرئاسية المحصنة وأن لا شيء أصبح خافيا على المخابرات الأمريكية بشأنهم. وتأكد لهؤلاء بعد هذه القصة المثيرة أن جلسات الود العلنية مع الرئيس باراك اوباما والمصافحات التي كانت تجمعهم لم تكن إلا مجرد صور للذكرى والبروتوكولات الدبلوماسية أما ما خفي من وجهة عملة هذا التملق فهو شيء آخر قاسمه المشترك المصلحة التي تطغى على كل الحسابات وتبيح كل شيء بما فيها التجسس على الصديق قبل العدو. ويدرك القادة الأوروبيون قبل غيرهم أن مطالبة حليفهم بتقديم توضيحات مجرد تحرك من أجل الاستئناس لا غير لقناعتهم الأكيدة أن الرئيس أوباما ليس له ما يقدمه لهم من تفسيرات من منطلق قاعدة التعامل المعروفة، المصلحة هي المصلحة والصداقة فيما بعد. كما أن الدول الغربية ستجد نفسها تبحث عن تفسيرات وهي معرضة في أية لحظة لأن تكون هي الأخرى محل مساءلة على اعتبار أن نفس المنطق المخابراتي الذي تتعامل به الولاياتالمتحدة معهم يبادلونها إياه وبنفس منطق حماية مصالح بلدانهم. والأكثر من ذلك، فإن العواصم الأوروبية لا يمكنها أن تطالب "الأخ الأكبر" لما وراء الأطلسي بتوضيحات وهي التي رمت بنفسها في أحضانه منذ انهيار المعسكر الشيوعي وأصبحت وفق المنطق الامريكي مجرد قوى منفذة لسياسات أمريكية تكرست في أفغانستان والعراق ثم ليبيا ومصر وهي الآن تسير في فلكها بالنسبة للمعضلة السورية والقياس على قضايا أخرى يبقى صالحا أيضا. ويتذكر الرأي العام العالمي كيف ضحى الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي بهامش المناورة الذي كانت تتمتع به فرنسا في معالجة القضايا الدولية عندما ارتمى بمحض إرادته في المرمى الأمريكي وفضل القيام بحرب بالوكالة للإطاحة بنظام العقيد الليبي معمر القذافي أشهرا بعد توقيعه معه على اتفاقيات استراتيجية. وهو انقلاب جعل الكثير من الفرنسيين يقولون بتهكم كبير أن الجنرال ديغول الذي رفض الهيمنة الأمريكية على أوروبا يتقلب ألما في قبره جراء ما فعله خليفته ساركوزي. والمفارقة أن ساركوزي فضل ركوب الخطة الأمريكية لإدارة ما يسمى ب«الربيع العربي" رغم انه وضع هو الآخر وفق تسريبات استعلاماتية تحت "العين السادسة" للمخابرات الأمريكية خلال انتخابات الرئاسة الفرنسية شهر ماي 2012 التي خسرها. وتكون الادارة الأمريكية قد غامرت بحملة التجسس على حلفائها رغم خطورتها على صورتها كدولة ديمقراطية تحترم الحريات العامة والفردية ولكنها فعلت فعلتها لأنها تدرك أيضا أن الدول المستهدفة ليس لها ما تفعله وأنها لا تلبث أن تقبل بالأمر الواقع الامريكي المفروض عليها. وحتى وإن قدمت الولاياتالمتحدة مبرراتها فإنها لن تخرج عن إطار المنافسة الاقتصادية التي يفرضها منطق الاقتصاد الليبرالي وبعد أن استشعرت الولاياتالمتحدة أن مصالحها أصبحت مهددة في مختلف مناطق العالم وبالتالي تحتم عليها اللجوء الى وسائل "أكثر لباقة" لمعرفة ما يفكر فيه أصدقاؤها لا لهدف سوى تفادي "شرهم".