خلّف رحيل "ماديبا" ناصر الكرامة والحرية والعدل في العالم، تعابير التقدير والعرفان والإشادة بمكارم رجل قهر بكفاحه ملامح عالم من الظلم والاستبداد، وأنصف بشجاعته وثباته وأخلاقه السامية القيم النبيلة. واستوقفت لحظات الأسى على رحيله العديد من القادة والشخصيات البارزة في العالم، في برهة للتبصر والاستلهام من صبره وإصراره في الكفاح؛ من أجل إعلاء القيم الإنسانية في ظل عالم أنهكته الفرقة والأحقاد.. فقد جمعت وفاة المكافح المتسامح نيلسون مانديلا، شعوب العالم بأسره وقادة الدول على اختلاف مكانتها، عند لحظات من الحسرة والتأثر على فقدان زعيم أفدى حياته من أجل نصرة قضية إنسانية، أراد من خلالها الانتصار لأبناء وطنه وعرقه، فانتصر بها لكافة الشعوب المضطهدة، وأعلى بها قيم المحبة والعدل والحرية، حتى أصبح قدوة في الشجاعة والتواضع والسلام. فمانديلا الذي دافع بثباته عن مبادئه أزيد من ربع عمره في سجن "روبن أيلاند"، بقي حتى بعد خروجه من السجن وتحقيقه لهدفه في تحرير بلاده من سرطان الميز العنصري، وفيا لأفكاره، ناصرا لكافة القضايا العادلة في العالم، ومستنكرا لاستمرار قضايا تصفية الاستعمار في العالم دون تسوية، مثلما هي الحال بالنسبة لقضية الصحراء الغربية، التي كلّفه موقفه الداعم لها، غضب ملك المغرب. وإذ أثبت هذا المقاوم التاريخي ثباته حول مواقفه مهما كلّفه ذلك، فقد حملت مختلف ردود الأفعال التي خلّفها رحيله، عرفانا بصدق نواياه وبصموده في الكفاح من أجل نبذ الاستعباد ونصرة العدل والحرية. فاليوم في ظل عالم مضطرب أنهكته مظاهر الفرقة والعداء وغلبت عليه الأنانية وقواعد لعبة المصالح المادية، من الطبيعي أن يبكي العالم فقدان "ماديبا" قبل أن يبكي رحيل مانديلا؛ لأن "ماديبا" التي تعني في موطن الفقيد مانديلا "الشجاع المقدام"، تترجم القيمة النفيسة لما افتقدته المعمورة في هذا الزعيم، الذي تفوّق على أطغى نظام استبدادي في العالم بصبره وإصراره، وبإيمانه بحق الإنسان في العيش بكرامة. ولعل ذلك ما جعل الرئيس الأمريكي باراك أوباما يقول في تأبينه لرمز الكفاح والمثابرة والسلام، بأن العالم لن يرى أمثال مانديلا من جديد، في وقت أجمعت كل الردود على أن أجمل ما يمكن أن يقدَّم لتخليد روح هذا الزعيم، هو الالتزام برسالته وبالمثال الذي جسّده، من خلال نشر الحب ونبذ الكراهية والسعي دوما إلى تقديم التضحيات من أجل خدمة الإنسانية. وفي خضمّ اعتراف القادة الكبار في العالم ببسالة زعيم كبير بدأ مشواره النضالي بشوارع "سويتو" شابا "أسود" طموحا عاشقا للفن النبيل، ومنه للقيم النبيلة التي تحفظ للإنسانية كرامتها، وانتهت حياته نورا أبيض ساطعا من نبل رسالته الخالدة والكافلة لدعائم السلام والحرية، تستوقفنا لحظات التآسي على فقدان سفير السلام للحظات، لنتأمل وضع أوطاننا في العالم العربي، الذي شتّته مشاعر الفرقة والكراهية بين أبناء القطر الواحد، ودخل في دوامة العنف والتقاتل والحروب الأهلية التي أُشعلت بفتيل أكذوبة "الربيع العربي"؛ وكأني بالأطراف المتناحرة في هذه الأوطان قد تناست وتجاهلت بأن الزمان يمضي إلى الأمام، ويكتب للأمم والأبطال تاريخها في سجل ذهبي، لا يكتب فيه إلا المخلصون لأوطانهم والصادقون في نواياهم والمغلّبون للمصلحة العليا على حساب المصالح الضيّقة، وهي كلها صفات يمكن أن تُستلهم من مانديلا.. ويكفي الجزائريين شرف البكاء على هذا الكبير؛ كونه لم ينكر جميل الجزائر التي اعتبرها بلده الثاني، وخصّها بأول زيارة له خارج جنوب إفريقيا بعد خروجه من السجن في 1990، مجددا في كل مرة تحدّث أو كتب عنها، عرفانه لما قدّمت الجزائر وثورتها المجيدة من دعم مادي ومعنوي له ولقضيته ولكافة الحركات التحررية في العالم. وحمل "ماديبا" الجزائر في قلبه، وكتب شهاداته عن عظمة الثورة الجزائرية، التي اعتبرها مرجعا للكفاح التحرري، وسرد في مذكراته التي جمع فيها رسائله التي كان يبعث بها إلى أهله من السجن، تفاصيل اللحظات التي قضاها بمعاقل الثورة الجزائرية بغرب البلاد في سنة 1961. ومن أصدق تعابير الإشادة بمناقب الزعيم الإفريقي مانديلا، تلك التي جاءت في برقية التعزية التي كتبها الرئيس بوتفليقة، والتي أكد فيها بأن "ماديبا" ترك بصمته في السجل الذهبي لحركة انعتاق إفريقيا، وتبوّأ المكانة الأثيرة في قلب كل إنسان محب لقيم الحرية والكرامة الإنسانية. لقد كسب نلسون مانديلا قلوب كل محبي الحرية والسلام، وسيبقى بالنسبة لكل الشعوب رمزا حيا للشجاعة والأمل ولحب الإنسانية ونصرة العدل وتمجيد الحرية في هذا العالم، الذي سيظل يتذكره كلما حل يومه العالمي الذي يصادف ذكرى ميلاده في 18 جويلية..