لم تخرج أوروبا بعد من تأثير وقع الصدمة الذي تركه تصويت الايرلنديين برفض الاندماج في الاتحاد الاوروبي بما سيشكل عقبة اخرى في طريق بناء هذا الاتحاد الذي تسعى الحكومات الاوروبية الى اقامته في اطار سياسة الاندماج التي شرعت فيها منذ سنة 2002. ولأن الصدمة كانت قوية على مهندسي معاهدة لشبونة الاتحادية فإن القمة التي ينتظر أن تجمعهم السبت القادم ولمدة يومين ستكون بمثابة "قمة ازمة" لبحث التداعيات المباشرة لقرار غالبية الايرلنديين بعدم التصويت لصالح هذه المعاهدة ومحاولة ابقاء قطار الاتحاد على السكة وعدم انحرافه مع كل المخاطر التي يمكن ان تنجم عن منحى في هذا الاتجاه. وبدأت العواصم الاوروبية التي تصر على اقامة الاتحاد الاوروبي في عمل حثيث من اجل الحيلولة دون أن تتحول نتيجة التصويت الايرلندية الى ازمة مستفحلة قد تعرقل البناء الوحدوي الاوروبي وبقناعة ان لاشيء يمكن ان يحد من وثبة البناء الاوروبي. وبنظر العديد من المتتبعين الاوروبيين لأطوار هذا البناء فإن انتكاسات نتائج التصويت التي سجلت الى حد الآن في عدد من دول القارة العجوز هي ثمرة الشرخ القائم بين عامة المواطنين الاوروبيين وحكوماتهم ومن منطلق أن فكرة الاتحاد تمت صياغتها من طرف حكام دون العودة إلى شعوبهم. ووفق هذا الاصرار بدأت الحكومات الاوروبية تفكر من الآن في الكيفية التي يمكن الخروج بواسطتها من متاهة المأزق الايرلندي بطغيان فكرة اعادة اجراء استفتاء آخر كمخرج من الازمة التي خلفها التصويت العقابي الايرلندي. وهو الاحتمال الذي لم يستبعده الوزير الاول الايرلندي برايان كوين الذي اكد امس مباشرة بعد اعلان نتيجة رفض الاتحاد الاوروبي بنسبة 53.4 بالمئة مقابل تأييده ب 46.6 بالمئة من الناخبين أن خيار اجراء استفتاء ثان الخريف القادم يبقى واردا وأكد انه لا يستبعد ايا من الاحتمالات المتاحة. وجاء تأكيد الوزير الاول الايرلندي في نفس الوقت الذي اعترف فيه وزير الشؤون الاوروبية الايرلندي ديك روش انه من الصعب معرفة طريقة الخروج من هذه الازمة". والواقع أن التصويت الايرلندي لم يكن الاول من نوعه بعد تجربة عملية التصويت الفرنسي والهولندي سنة 2005 بعد أن اقتنع الناخبون الفرنسيون والهولنديون ان الاتحاد لا يعبر عن مشاغلهم وأن الهوة بين مطالبهم وقناعات الحكام كبيرة ولا يمكن تقليص شرخها. وهي القناعة التي جعلت رئيس الحزب الاشتراكي الاوروبي الدنماركي بول نيروب راسميسن يؤكد ان اوروبا لم يعد بإمكانها تضييع مزيد من الوقت في معالجة ازماتها الدستورية وانه اذا ارادت ان يحظى المشروع بتأييد شعبي فإنه يتعين عليها ان تبدأ ببناء "اوروبا المواطنين الاوروبيين" في تلميح واضح الى ان الدستور الاوروبي لم يلق الترحاب العام بسبب مخاوف الاوروبيين من تبعاته كشعوب ذات تقاليد وثقافة ليست بالضرورة موحدة ومشتركة. وحتى فكرة اللجوء لاجراء استفتاء ثان شككت صحيفة الفاينشل تايمز الواسعة الانتشار اوروبيا في نجاعتها وأكدت انه سيؤول كسابقه الى الفشل واقترحت بدلا عن ذلك فكرة تجميد المشروع الوحدوي لعدة سنوات" ربما الى غاية استصاغتها من طرف عامة الشعوب الاوروبية التي لم تهضم الى حد الآن انصهارها في دولة اوربية ما انفكت تعرف التوسع وتفقد الكثير من خصوصيات شعوبها. وجعلت هذه الصورة القاتمة التي اكتنفت مستقبل الاتحاد الاوروبي رئيس الوزراء الايرلندي برايان كوين يعيش اسوأ ايامه بعد ان استفاق امس على وقع سيل من الانتقادات واول انتكاسة سياسية له شهرا فقط بعد اعتلائه كرسي رئاسة الوزارة الاولى في العاصمة دبلن. يذكر أن فكرة الدستور الاوروبي الوحدوي حظي الى حد الآن بتصويت شعوب 18 دولة من أصل 27 دولة اوروبية معنية بالدستور الاوروبي الوحدوي والتي مازالت لم تجتز بعد امتحان شعوبها في مشروع استراتيجي وهام بأهمية تكريس الوحدة الاوروبية على ارض الواقع. ولان الازمة مستعصية فقد تصدرت نتيجة هذا التصوت العقابي واجهات كل الصحف الاوروبية الصادرة امس والتي تناولت القضية من عدة اوجه وان كانت اجمعت ان العلاقة بين الشعوب الاوروبية وحكوماتها لم يعد التيار يمر عبر قطبيها. ولخصت صحيفة "التايمز" البريطانية الواسعة الانتشار هذا الواقع واكدت في افتتاحتيها ان الايرلنديين صوتوا بالرفض لمشروع اكتنفته مصطلحات مبهمة سعى موظفون حكوميون تمريرها ولكنها لم تلق تأييد عامة الأوروبيين.