استضاف موعد ”صدى الأقلام” بالمسرح الوطني، أول أمس، الإعلامي مهدي براشد، لتقديم كتابه الجديد الذي يحمل عنوان ”معجم العامية الدزيرية بلسان جزائري مبين”، غاص من خلاله في مكنونات الكلمة الأصيلة المعبرة عن هوية مدينة لم تسلم عبر تاريخها من محاولات المسخ والهيمنة بكل أشكالها. يعتبر هذا المعجم باكورة البحث الذي أنجزه الإعلامي، السيد مهدي براشد خلال سنوات، هذا الغيور على تراث مدينة الجزائر خاصة القصبة الذي ولد وترعرع فيها واكتشف في السنوات الأولى من طفولته ثراءها الثقافي والاجتماعي الذي ما فتئ يضيع يوما بعد يوم، حيث أشار براشد في معرض حديثه إلى أن عمله هذا بدأ منذ سنوات وبشكل متقطع وسعى فيه للبحث في مختلف القواميس كما تجول في أزقة الحي العتيق للقصبة والتقى ”عجائز زمان” اللواتي بلغن من العمر عتيا. كما استغل مدونة العامية الجزائرية القديمة وغيرها من مصادر البحث. أكد ضيف ”صدى الأقلام” جازما أن مدينة الجزائر ومنها القصبة ليست مدينة فرونكوفونية ولم تكن الفرنسية يوما لغة تخاطبها، لكنه أكد من جهة أخرى أن ظاهرة ”التفرنس” تفشت أكثر بعد مرحلة الاستقلال الذي جعل الناس أكثر راحة واطمئنانا على هويتهم وبالتالي لم تعد اللغة هاجسا كما كانت عليه إبان الاستعمار، وهنا يشير براشد إلى أن الجزائريين في فترة الاستعمار كانوا مهددين في كل شيء ابتداء من المكان حيث هدمت الكثير من معالم مدينة الجزائر القديمة أي القصبة. كما كان الحال مع القصبة السفلى التي أقيمت على أطلالها الساحات والشوارع الأوروبية ليتواصل التوسع وتضيع مع المكان المعالم الثقافية والهوية فكانت ردة الفعل من طرف الجزائريين هو التمسك بتراثهم ولسانهم الذي حافظوا عليه مدة 132 سنة. يؤكّد المتحدث، أن المدونة التي اشتغل عليها والخاصة بلغة مدينة الجزائر القديمة تتكون في أساسها من اللغة العربية بنسبة تصل إلى 80 بالمائة، تأتي بعدها كلمات ومرادفات ذات أصل أمازيغي ثم تركي، فارسي، إسباني، إيطالي، مالطي ويوناني وفي الأخير بعض الكلمات القليلة جدا من الفرنسية، وهنا رد براشد على الأطروحات الاستعمارية والتغريبية الفرنكوفونية التي تدَعي أن لغة ”الدزاير القديمة” كانت لغة ”الفرانغا” مؤكدا أن هذه اللغة كانت لغة السواحل الجزائرية والمغاربية عموما أبدعها البحارة عبر المتوسط تشبه لغة ”الأسبيرادو” المتوسطية وكانت ”الفرانغا” لا تتعدى حدود المرافئ وهي عبارة عن هجين بين الإسبانية، الإيطالية واليونانية اقتضاها تطور القرصنة كوسيلة للتعبير بلغة محايدة. عند دخول الاستعمار الفرنسي إلى مدينة الجزائر سنة 1830 أصدرت غرفة التجارة بمارسيليا قاموسا لغويا عنوانه ”مختصر الأرابيسك” اعتبرت فيه ”الفرانغا” هي لغة سكان الجزائر، علما أن القاموس يحوي في غالبه على الكلمات المتداولة في المرافئ ولا تزال هذه الأطروحة إلى اليوم أداة عند المشككين في هوية الجزائر. الحقيقة كما رواها ضيف ”صدى الأقلام” يشهرها التاريخ في وجه هؤلاء وبالوثائق من خلال عديد الأمثلة منها القصائد الشعرية التي كتبها الفطاحلة منهم محمد بن اسماعيل ابن مدينة الجزائر الذي حارب ضمن الأسطول التركي في حروب القرم وكان يتحدث بلسان الشعب رغم إتقانه للغة البحر، ليكتب ذات زمان قصيد ”الفراق” يسرد فيه غربة البحر ووحشته، وأكد براشد أن هذه القصيدة طويلة جدا ومع ذلك لا توجد بها لفظة أعجمية كالفرنسية أو حتى ”الفرانغا” كذلك الحال مع الشاعر العاصمي المشهور، محمد الكبابطي، الذي نفي عند دخول الاستعمار الفرنسي إلى مدينة الجزائر نحو مصر، وكتب العديد من القصائد لا أثر فيها للكلمات الأوروبية خاصة الفرنسية منها. بالمقابل، أكد براشد أن سكان الجزائر سمحوا إبان الفترة الاستعمارية مثلا بدخول بعض المفردات الفرنسية الخاصة بأشياء لم يكن لهم عهد بها ومع ذلك حاولوا تطويعها لتبدو جزائرية أكثر منها فرنسية، وبعد استرجاع السيادة الوطنية في 1962 بقيت الإدارة الجزائرية مفرنسة وكان لزاما إتقان الفرنسية للوصول إلى هذه الإدارة سواء بالتعامل أو العمل، ومما زاد الطين بلة –حسب المتحدث- سياسة التعريب التي أتت لتعرب المعرب أصلا وتم حينها الخلط بين العربية اللغة والعربية النموذج الإيديولوجي الناصري، وهنا يقول مهدي براشد ساخرا ”كان المعلم المشرقي في المدرسة إبان الستينيات يقول لي اسكت يا ولد ولا تقل قردونا أو مصرانا أو أقعد أو غيرها من الكلمات رغم أنها كلها بالعربية ليبقى هو النموذج وبذلك تراجعت عربية المجتمع العاصمي”. عوامل أخرى، حرمت الجزائري من لغته منها مثلا غزو الفضائيات التي ملأت الفراغ الحاصل بلغة هجينة وركيكة وهكذا أصبح الجزائري أو ابن العاصمة بالتحديد -كما يشير المتحدث- يجد نفسه ضائعا لا يجيد العربية ولا الفرنسية ولا العامية وهو ما يظهره أحيانا كالأبكم لا يجد الكلمات التي يريد التعبير عنها، لأنه لا يدرك معاني ألفاظ يستعملها بشكل مختلف عن معناها الحقيقي فغاب التواصل خاصة عند جيل الشباب الذي يبدو كالأبكم المنفعل يحاول إيصال فكرته بالحركات أحيانا أو بالعنف والصراخ نتيجة الضغط والجفاف اللغوي وأصبح الكل يتحدث دون أن يفهم لأنه لا يملك لغته. من العوامل التي ساهمت في هذا التراجع اللغوي ورداءته، الإنتاج الفني، إذ يرى براشد أنه بعدما توقف البعض عن الكتابة خاصة في فن الرواية بسبب انعدام أدوات اللغة والقراءة عند القارئ راح الشعراء وكتاب كلمات الأغاني ينزلون بالمستوى واللجوء إلى التعابير الركيكة والدخيلة بحجة الوصول إلى رجل الشارع البسيط فانهار مستوى اللغة والقيم الاجتماعية التي تحملها، بينما كان فيما مضى الشارع بما فيه من بسطاء هو الذي يصعد إلى مستوى الشاعر ذو الخطاب الراقي والحكيم المعبر بكل جميل وحكيم، وكذلك الحال بالنسبة لباقي الفنون التي افتقدت لغة الشعب لتعوضها بفراغ لساني يعكس الفراغ الثقافي. في الأخير، أكد براشد أنه ابن القصبة البار بها الغيور على تراثها وشخصيتها التي هي جزء من الشخصية الوطنية الجزائرية، يحس كغيره من أبناء القصبة بالغربة في هذا الحي التاريخي فلم تعد الأزقة هي الأزقة إذ أن الكثير منها سد وهي التي كان مهدي مثلا يقطعها ”كالجني” ليعبر من خلالها خمسة حومات ولم يكن يتجاوز الخمس سنوات عكس اليوم، كما لم يعد لسان التخاطب هو نفسه حيث ضاعت المفردات والمعاني وبالتالي ضاع التواصل مما جعل الغربة اللغوية تستوطن أكثر، ومع ذلك فقد استطاع مهدي أن يهدي مدينته هذا المعجم الذي أنجزه من خلال مدونته الذهنية التي اكتسبها عبر مراحل العمر من الجدات وعجائز القصبة ذوات التسعين خريفا فما فوق ومن بسطاء القصبة من الطباخ إلى الصياد إلى الصنايعي إلى الحوات، كما استفاد ممن سبقوه في هذا المجال منهم الراحل محمد بن شنب الذي ألف في بداية القرن الماضي كتابا عن ”ما تبقى من التركية والفارسية في اللغة الجزائرية” وكذلك مؤلفات بن سديرة ومؤلفات المستشرقين منهم بوسيي وتوناروزي الذي ألف ”تكملة المعاجم” كما استعان المتحدث بالأعمال الفنية خاصة المسرح والأغاني والبوقالات. أسئلة كثيرة طرحت على الضيف أثناء المناقشة منها تسجيله للألفاظ الجنسية في معجمه حيث أشار أنها جزء من تراثنا اللغوي وهي غير بذيئة إذا استعملت في إطار مقامها، كما يعرف ذلك في الفقه وكما كان أجدادنا يستعملونها حق الاستعمال أي في المكان والزمان المناسبين لأنهم كانوا يستوعبون معاني اللغة وبالتالي خلت لغتهم ولغة التواصل بينهم من البذاءة عكس اليوم حيث تستعمل هذه الألفاظ في غير مكانها ولا زمانها وترمى جزافا في الشارع وتعتبر عيبا رغم أن لها معنى تؤديه في المقام المناسب. فيما يتعلق بالصورة النمطية المرسومة عن العاصمي ”القحة” أو ”القصباوي” والراسخة في ذهن أبناء باقي مناطق الوطن وحتى من أبناء العاصمة الشباب من كون العاصمي يرتدي ”الشونغاي” ويحمل القفيفة والنعناعة ولا يردد إلا ”ياخو.. يامو.. ماماي..” وغيرها من الألفاظ، أكد الضيف أن هذه النماذج ليس لها علاقة بأبناء القصبة ولا بثقافتهم الأصيلة معطيا بذلك مثالا حيا فاعتبر أن العنقى أو بشطارزي كانا مثالين يعكسان هوية القصبة أكثر من دحمان الحراشي مثلا الذي كان أقرب إلى الهامش أكثر منه إلى المركز، هذا الهامش الذي يعني البحر والميناء وليس الحي المأهول بالسكان لكن مع مرور الأيام أصبح هذا الهامش هو المركز وهو الرمز بينما تراجع الأصل ولم يعد متداولا خاصة منذ نهاية السبعينيات. على العموم فقد صال وجال الضيف في هذا التراث الجميل، منتقدا في هدوء وسخرية كعادته الأحوال التي تسير إلى الأسوء في غياب التحرّك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه على اعتبار أن هذه المدينة ترقد على ماضينا التليد وتراثنا المجيد الذي لا يزال غيرنا يحسب له ألف حساب.