لا يمكن فهم مجتمع ما من خلال اللغة الرسمية التي كُتبت بها الأعمال الأدبية والإعلامية العامية الدزيرية محصلة لعدة عاميات جزائرية تشكلت بفعل توافد الجزائريين على العاصمة عن دار فيسيرا، صدر مؤخرا كتاب/قاموس، حول اللهجة العامية العاصمية (الدزيرية) من إنجاز وإعداد الباحث والإعلامي مهدي براشد. الكتاب جاء تحت عنوان "معجم العامية الدزيرية - بلسان جزائري مبين" في (393 ص). وهو يعد دراسة بحثية غاصت في اللهجة العامية الجزائرية العاصمية على وجه الخصوص وفي الحياة العاصمية خلال الحقبة الاستعمارية وما قبلها، وحاول من خلالها المؤلف استنطاق مراحل وتحولات الحياة الاجتماعية بمحمولاتها الثقافية المتعددة من خلال المعطى اللغوي الذي يجسده اللسان العامي المفتوح على اللهجة الحاملة لتعدد المعاني والمفردات والمصطلحات في سياقات تتشابه أحيانا وتتضاد وتتعدد أحيانا أخرى. براشد يتحدث في هذا الحوار عن كتابه وعن ظروف انجازه وعن محاوره وعن العامية الدزيرية التي جعلته يخصص لها هذا المعجم المُهم. حاورته/ نوّارة لحرش "معجم العامية الدزيرية بلسان جزائري مبين" كتابك الذي صدر مؤخرا عن منشورات فيسيرا، ما الذي دفعك إلى الخوض في اللهجة العامية الجزائرية واستنطاق اللسان العامي وتشريح كلماته ومفرداته ومعانيه؟ مهدي براشد: هناك جوانب ذاتية تتعلق بمدينة الجزائر "دزاير" مدينتي التي ولدت فيها وولد فيها والدي، وحين أقول "دزاير" أقصد حي القصبة. هذا الحي يتداعى أمامي يوما بعد يوم، ويعطيني (شعور) بأنني أتداعى معه. أمر طبيعي أن نتحول إلى التراث اللامادي ونحاول الحفاظ عليه كآخر وسيلة للدفاع عن النفس، عن الأشياء التي تقول بها للآخر أنا موجود، أنا هكذا. الجانب الموضوعي، أو إن شئتِ المبرر المعرفي، فهو أن مسألة اللغة بصفتها أحد أهم مكونات الهوية بالنسبة إلى أي شعب، كانت ومازالت مظهرا وحقلا للجدل الدوغمائي والانفعالي، إلا أنها في الجزائر كانت موضوع تنازع عاطفي بشكل فج، جعل العامية الجزائرية بصفة عامة و"الدزيرية" بصفة خاصة موضوع تجاذب بين فريقين إيديولوجيين: معرب متطرف بفعل التوجه الناصري الذي أراد أن يلحق الجزائر، في انتمائها الثقافي واللغوي أيضا بالقومية العربية على مشيئة ورؤية المشرق العربي، وبالتالي احتقار العامية الجزائرية أو على الأقل جعلها وسيلة اتصال لا ترقى للتعبير عن الهوية الثقافية للجزائر، كما هي اللغة العربية الفصحى (اللغة الرسمية)، بل واعتبر الاهتمام بالعامية تكتيك من الداعي إلى الاهتمام بها لضرب العربية باعتبارها مقوم أساسي من مقومات الشعب الجزائري. ومفرنس متطرف كذلك يعتقد اعتقادا في أن العربية لغة تخلف، وأن الفرنسية "غنيمة الحرب" الوصف الذي وجد فيه درقا جيدا للاختباء وراءه، هي لغة التطور، وعمل جاهدا على الاهتمام بالعامية، ولكن من باب أنها لا تمت بأية صلة للعربية، مستندا في ذلك، عن بينة أو جهل، إلى أكذوبة ما يعرف ب "اللغة الفرنكا" (Lingua franca) هذا الهجين اللغوي الذي عرفته مرافئ حوض البحر المتوسط خلال القرون 16 و17 و18 بفعل تطور وتوسع القرصنة فيه. ما هي الظروف التي رافقت انجاز هذا الكتاب القاموس، وكم أخذ منك من جهد واشتغال، وما الصعوبات التي واجهتك أكثر؟ مهدي براشد: الفكرة بدأت معي في نهاية الثمانينات، كان ذلك حين طلبت مني إحدى أساتذة اللغة الفرنسية الدكتورة مراد أن أرافقها في جمع مدونة عن العامية "الدزيرية" بالجزائر العاصمة، فخرجت معها إلى القصبة. كان ذلك في سنة 1989، سمعت بعدها أن المدونة كانت منطلقا لمداخلة لها بباريس. فرحت لذلك، ربما كان هذا أول محفز للعمل. إلا أن الاهتمام انسحب في سنوات الإرهاب، لم يكن هناك لا الظرف الأمني ولا الظرف الثقافي والعلمي للتفكير في مثل هذا العمل، وإن كانت هذه الفترة قد ولدت قاموسا خاصا بها. مع خفوت حدة الأزمة الأمنية، عدت إلى التجول بحي القصبة وعادت مع ذلك الفكرة. كان علي أن أحقق أكبر مدونة ممكنة، لكن كان علي أن أذهب إلى أقدم مصدر ممكن لهذه المدونة، هذا أمر هام في العمل، وبالتالي عليك البحث في أسن وأقدم سكان العاصمة ممن حافظوا على هذه العامية، ومن أوساط اجتماعية مختلفة، خاصة النساء العجائز، فهن أحسن من يحتفظ باللسان العاصمي. ليس الأمر سهلا، فالكثير ممن أعرفهم غادروا القصبة إلى أماكن أخرى. لكن الأهم من ذلك، أنه كان علي أن أجد بعد ذلك شواهد هذه العامية الشفهية في سند مادي يؤكد للباحث مستقبلا، بعد 50 سنوات، أن هذه المدونة كانت فعلا موجودة. هنا بدأ البحث في نصوص الشعر الشعبي والأغاني الشعبية والأمثال والبوقالات، والأفلام القديمة والسكاتشات والمسرحيات وغيرها من الوثائق السمعية البصرية. بعد كل هذا يأتي أمر آخر، يتعلق بتخريج ألفاظ هذه المدونة في الاستعمال الدزيري، وهذا يتطلب البحث في اللغات التي اقترضت منها العامية الدزيرية، وهي كثيرة، العربية والأمازيغية والتركية والفارسية والإسبانية والإيطالية واليونانية والفرنسية. في الحقيقة، لو كنا جادين في البحث، عمل مثل هذا يقوم به مخبر يجند له فريق بحث. قلت في مقدمة الكِتاب "انتبه العديد من الباحثين الجزائريين في علوم اللسان وما اتصل بها من علوم أخرى، منذ العشرين سنة الأخيرة من القرن الماضي، إلى أهمية البحث في العامية الجزائرية وأهمية حقل البحث السوسيو لساني فيها". لكن الملاحظ هو شح كبير في هذا الجانب، مثلا منذ دراسات ابن شنب لم يصدر لا كتاب ولا قاموس يبحث في معطيات ومستجدات هذا اللسان العامي العاصمي أو الجزائري؟، لماذا برأيك هذا النقص في هذا الجانب؟ مهدي براشد: أشرت في المقدمة إلى أن الاهتمام بهذا الحقل كان في العشريتين الأوليتين من القرن الماضي، حاول الفرنسيون إبان الاستعمار البحث في الحقل، ولكن لأغراض كولونيالية بحتة. بل واستفاد من بحوث عدد من الجزائريين، لعل أهمهم بن سديرة. بعد الاستقلال، كانت هناك -كما قلت- نظرة ازدراء من السلطة والمثقف الرسمي بصفة عامة، تجاه الثقافة الشفهية بصفة عامة وليس فقط تجاه العامية الجزائرية. لكن في العشريتين الأخيرتين، ظهر اهتمام كبير في الجامعة بهذا الحقل، وهناك عدد لا بأس به من الرسائل الجامعية تتناول الحقل بالبحث، فقط يجب إخراجه من رفوف المكتبات الجامعية وإناء هذه الرسائل. الكتاب المعجم لم يأت ليصحح اللسان العاصمي، لكنه جاء ربما لينصفه ولينفي عنه تهمة التأزم أو اضطراب هويته اللسانية، المعجم ينتصر بشكل أو بآخر للسان العاصمي، ما رأيك؟ مهدي براشد: هذه الفكرة أثارت استغرابي، وأنا الذي تربيت في هذه المدينة، مثلما تربى فيها والدي وجداي من الأب والأم. العامية الدزيرية محصلة لعدة عاميات جزائرية تشكلت بفعل توافد الجزائريين على العاصمة "دزاير" التي كانت حاضرة وعاصمة استقطبت الجزائريين من منطقة القبائل والمدية وجيجل وبسكرة ومليانة وغيرها من المناطق الجزائرية الأخرى، عبر العصور. لذلك كان إصراري على أن يكون العنوان الثانوي للقاموس "بلسان جزائري مبين". مقام العامية الدزيرية بين العاميات الجزائرية الأخرى شبيه بمقام لغة قريش التي نزل بها القرآن، بلسان عربي مبين، بين لغات القبائل العربية الأخرى. اللسان العاصمي خصوصا تطغى عليه اللغة والمفردات الفرنسية، فهل تقول بعكس هذا؟ مهدي براشد: لم أسمع في طفولتي، يوما، في محيطي العائلي، استعمالهم للقاموس الفرنسي، إلا ما تعلق بأشياء لا معادل لفظي لها في لهجتنا. وأنتِ تقرئين المعجم ستكتشفين أن اللفظة الفرنسية تأتي في آخر الترتيب بعد العربية والأمازيغية والتركية والفارسية والإسبانية والإيطالية واليونانية والمالطية. أتحدى أي كان يحقق أن العامية الدزيرية إلى غاية السبعينات كانت تحتوي على 10 في المائة على أكثر تقدير من الألفاظ الفرنسية، حتى الألفاظ التي نعتقد أنها فرنسية إنما هي ألفاظ إسبانية أو إيطالية أو يونانية. حتى الذين يقولون بأكذوبة "اللغة الفرانكا" لا يستطيعون أن يأتوا بدليل واحد على أن هذه اللغة الفرانكا تجاوزت حدود الميناء إلى داخل المدينة. بدليل أن شعراء شعبيين من "دزاير"، على ما نعرف عن هؤلاء ارتباطهم بلغة المتلقي في نظمهم، لا نجد في قصائدهم ألفاظا من هذه اللغة المفترضة، أحسن مثال على ذلك الشاعر "الشيخ محمد بن إسماعيل" صاحب قصيدة الفراق التي غناها الحاج امحمد العنقى، هذا الشاعر (1870-1820)، له قصائد كثيرة في مدح الأولياء الصالحين، وعلى رأسهم الولي الصالح الذي تنسب الجزائر العاصمة إليه "سيدي عبد الرحمن الثعالبي". شارك في التحالف العثماني الفرنسي البريطاني والإيطالي ضد الإمبراطورية الروسية في حرب القرم (1853 - 1858) التي –يقال- كانت ملهمته إلى قصيدة الفراق. وقد أفرد له العلامة الدكتور محمد بن شنب مقالا مطولا في "المجلة الإفريقية"، لا نجد لفظة واحدة من هذه اللغة الفرانكا. الشاعر مصطفى بن محمد الكبابطي، شاعر من "دزاير" أيضا عمل مدرسًا في مساجد الجزائر (العاصمة)، ثم تولى التدريس في الجامع الأعظم (1824م)، ثم ولاه الداي حسين باشا القضاء على المذهب المالكي (1827م)، ناهض الاحتلال من خلال معارضته ضم الأوقاف الإسلامية إلى أملاك الدولة الفرنسية، ونضاله للإبقاء على تعلم القرآن الكريم، وإصداره فتوى تحريم الهجرة هروبًا من الاحتلال، فسجن ثم نفي إلى الإسكندرية. لن نجد في شعره لفظة من قاموس اللغة الفرانكا. أعتقد أن الأمر، في هذه اللغة الأكذوبة، يتعلق بمسألة اقتراض لا أكثر. العاصمة لم تفرنس أيام الاستعمار الفرنسي الذي عجز، على مدى 130 سنة، عن إدخال لغته إلى البيت الجزائري والحي الجزائري، واستطاع الاستقلال أن يفعل ذلك وببراعة في أقل من 50 سنة. لماذا هذا المعجم في هذا الوقت بالذات، في وقت تغيرت فيه سياقات الكثير من الألفاظ وحتى معانيها؟ مهدي براشد: أولا، المسألة تتعلق كما قلت بمحاولة تدوين هذه العامية المهددة بالانقراض مثلما المدينة التي أنتجتها بدأت تنقرض. في هذا المقام نحن جد متأخرون في هذا المجال، وكان علينا، ونحن ننتمي إلى أمة اخترعت القواميس أن نكون قد ألفنا العديد من المعاجم خاصة بلهجة كل منطقة، في سياق عمل متكامل عن الجغرافيا اللغوية للجزائر. ثم إن هذه العامية هي وعاء لثقافة شعب بأكمله، ضياعها يعني ضياع فسيفساء ثقافية جد هامة. المسألة الثانية، أعتقد أنه لا يمكن فهم مجتمع ما من خلال اللغة الرسمية التي كُتبت بها الأعمال الأدبية والإعلامية، سواء تعلق الأمر بالعربية أو الفرنسية، فَهْم مجتمع يتم بفهم اللغة التي يعيش بها يومياته، اللغة التي يتواصل بها ويحب بها ويكره بها ويصرخ بها في الملاعب والمظاهرات ويتشاتم بعضه بعض بها. اللغة الالكترونية إن صح التعبير أصبحت تستبدل الحروف بالأرقام، هذا كتابةً، فهل يحدث هذا مثلا مع اللهجة المحكية اللسانية؟ مهدي براشد: لا الأمر يختلف، أعتقد أن المسخ أصاب المستوى الشفهي قبل شيوع الأنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي. من منطلق أن القاموس يبدأ ولا ينتهي، هل هناك أجزاء أخرى في هذا المجال؟ مهدي براشد: المشروع في الأصل كان أكبر من هذا بكثير، إنما ظروف الطبع حتمت تقليص العمل، اضطررت لتحويل المدخل النظري إلى مقدمة، والاستغناء عن الملاحق، الأعلام والأماكن والأمثال والبوقالات، وجزء هام من المادة المعجمية، وأشكال الاستعمال المختلفة لهذا المعجم. العمل كان من المفروض أن يصدر في 3 أجزاء. إذا تيسر لي سأعيد نشر العمل كاملا. بطبيعة الحال، القاموس يبدأ ولا ينتهي، سنحتاج دائما إلى إضافات جديدة، سواء بالحفر في المعجم القديم، أو لإضافة ألفاظ جديدة واستعمالات جديدة. المجتمع حي ولغته حية كذلك.