احتضن المركز الثقافي مصطفى كاتب أمس، ندوة عنوانها ”وزراء كتبوا”، وذلك في إطار فعاليات الأسبوع الثقافي الذي تنظمه مديرية النشر بالمؤسسة الوطنية للاتصال، النشر والإشهار، حضرها بعض الوزراء من أجيال مختلفة، نشروا العديد من الكتب، سجلوا فيها مساراتهم التي تعكس جوانب مهمة من تاريخنا السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، حاولوا من خلال ذلك إيصال تجاربهم وما عاشوه إلى غيرهم. رحّب الشاعر عبد الرزاق بوكبة في هذا اللقاء بالسادة الوزراء، الذين لايزالون يواصلون فعل الكتابة بعد مغادرتهم مناصبهم الوزارية، مؤكدا على تجاربهم الثرية التي يقدمونها للقراء. أدار الندوة الأستاذ عز الدين ميهوبي رئيس المجلس الأعلى للغة العربية، الذي اعتبر الكتابة بمثابة الوجه الآخر للمسؤولين الذين قادوا قطاعات مختلفة في الدولة. بالمناسبة، عرّف المتحدث الكتابة بأنها فعل تغيير ومعرفة وإبداع وحلم ورؤية، وهي ليست سلوكا نابعا من فراغ. يقول الأستاذ ميهوبي: ”كثيرا ما رأينا عددا من الوزراء يوثّقون تجاربهم بعد مغادرتهم مناصبهم الوزارية، علما أن هذا السلوك سمة في المجتمعات المتحضرة، وبذلك أثروا المكتبة مع التسجيل الواضح للحضور الكبير للكتاب التاريخي؛ باعتبار أن التاريخ هو نقطة تلاقي اهتمامات كل الناس، كما أن من حق الجميع معرفة تجارب التاريخ، خاصة أن الجزائر تملك التاريخ ولا تملك الذاكرة؛ مما يتطلب المزيد من هذه الكتابات”؛ إذ أكد ميهوبي أن الكتابة مسؤولية تجاه التاريخ والمجتمع. الندوة استضافت كلا من السادة الوزراء السابقين كمال بوشامة والأمين بشيشي والسيدة زهور ونّيسي (حملوا معهم بعض ما نشروه). أولى المتدخلين كانت السيدة ونّيسي، المعروفة بإنتاجها الغزير كمّا وكيفا، استفادت منه أجيال متعاقبة، وكان من آخر ما قدّمت مذكراتها ”عبر الزهور والأشواك”. اعتبرت ونّيسي الكتابة فعلا لم يرتبط بالمسؤوليات السياسية والمناصب، بدأته وهي صبية في ال17 من العمر، عندما كانت طالبة في المدارس الحرة، حيث كتبت وهي تمتحن في بيتها بعد مرض أصابها، نصا، فاستغله الراحلان توفيق المدني ورضا حوحو لنشره في البصائر، ومن ذلك الزمن لم تتوقف هذه السيدة الكريمة عن ممارسة الكتابة. من بين ما كتبت في بداياتها ”جناية أب” وغيرها من القصص، جمعتها نهاية الستينيات الكاتبة المصرية تلميذة طه حسين سهير القلماوي، ونشرتها بالقاهرة تحت عنوان ”الرصيف النائم”، كما حملت معها قصة ”فاطمة” وسلّمتها لإذاعة العرب، لتحوَّل إلى تمثيلية عُرضت مدة شهر كامل. حينها فرحت السيدة زهور ونيسي؛ لأن ذلك كان أول ما أصدرت، وسطع اسمها في الساحة الأدبية العربية. عندما تسلّمت هذه السيدة مسؤولية الوزارة خصصت وقتها كله لهذه المسؤولية للنجاح فيها؛ باعتبارها أول امرأة تتقلدها بعد الاستقلال، لكن اهتمامها بالثقافة والنشر لم يتوقف، وأصدرت مجموعتها القصصية ”الظلال الممتدة”، علما أن زملاءها السادة الوزراء كانوا يشجعونها، وكان منهم بوعلام بسايح وكمال بوشامة وأحمد بن فريحة وغيرهم.أكدت المتحدثة أن الكتابة طقوس تتباين بين الأشخاص والأزمنة والأمكنة، وهي عندها حالة إدمان مرغوبة للتنفيس، وغير مرغوبة؛ لأنها تصطدم بعراقيل اجتماعية، لكنها استطاعت أن تُكسر الطابوهات في زمانها، وتُثبت نفسها كامرأة جزائرية لا تحب أن تكون رجلا بقدر ما تحب أن تكون كائنا بعقل. السيدة الوزيرة ثمّنت الإبداع الذي يبني ولا يهدّم، والحرية البعيدة عن التطرف؛ لذلك عملت على زرع الأمل الأخضر بين السطور رغم بعض الاهتزازات النفسية وتحديات اليأس، وحاولت أن توازن بين الحداثة والأصالة؛ فالكتابة ليست قطيعة معرفية مع الماضي، بل هي تواصلٌ عندها بين الماضي والحاضر لإلقاء الضوء على أركان لاتزال مظلمة من هذا الماضي، لننتفع بها ونحن نعيش الحداثة. اعتبرت السيدة ونّيسي كتاباتها شهادات حق للأجيال، وهي مراحل هامة وثرية، وهي فرص ومعالم ورموز وأحداث لا تتكرر مع كل جيل؛ تقول: ”حظنا أننا عشناها؛ لذلك علينا تسجيلها وتسجيل التحديات التي عشناها كجيل بدايات الاستقلال؛ تماما كما يواجه جيل اليوم تحديات العولمة وثقافة الإشهار والتبعية الطوعية”. من جانبه، قدّم السيد بشيشي قراءة في تجربته التي سجّلها في 3 إصدارات. استعرض المتحدث بداياته مع العمل الفني الذي كان منبوذا في مجتمعنا، لكنه استطاع أن يؤسس لمسار فني، ترك بصمته على الساحة، بدأ منذ أن كان طالبا بتونس، إلى عمله الإعلامي أثناء الثورة من خلال الإذاعة السرية، وبعد الاستقلال حاول أن يزرع الثقافة الفنية الجزائرية في المنظومة التربوية، وحقق الكثير مع غيره من المثقفين الجزائريين، وهذا من أجل استرجاع هويتنا الجزائرية، التي لا يكتمل استقلالنا دونها. من الكتب التي أصدرها بشيشي ”أناشيد الوطن”، التي رصد فيها الأناشيد الوطنية الجزائرية منذ سنة 1930 حتى 1998، وهنا تحدّث عن النشيد الوطني وعن بعض الفقرات التي حُذفت منه أثناء تلحينه بالقاهرة، كعبارة: ”لم تُصغ فرنسا بدل لم يُصغ لنا”؛ وهذا ”لضرورة سياسية” عام 1956 (العدوان الثلاثي على مصر). ألّف أيضا ”أضواء على إذاعة الجزائر المكافحة”، وأرّخ لمواقف عاشها مع جيل الثورة. السيد كمال بوشامة أشار في تدخّله إلى أنه بدأ الكتابة وهو طالب في مدارس جمعية العلماء بمسقط رأسه بشرشال. ونتيجة اجتهاده أصبحت مقالاته تُنشر في مجلة الثانوية، ثم بالصحافة الوطنية، منها مجلة ”الشباب”، ثم كتب القصص والتحاليل الصحفية في ”الثورة الإفريقية” و«المجاهد الأسبوعي”. وواصل الكتابة اللاذعة بأسماء مستعارة، انتقد فيها بعض سياسات الثورة الثقافية، ولم تتوقف كتاباته حتى وهو وزير للشباب والرياضة. وقد ألّف ”جبهة التحرير الوطني وسيلة وذريعة للحكم”، ثم ”هل كانت الجبهة يوما في السلطة؟”، وغيرهما، ووصل عدد كتبه إلى 23 مؤلَّفا، منها ”كفاح شعب، مولد أمة”، وثلاثيته عن شرشال والأندلس وبلاد الشام، وكتابات عن شخصيات وطنية، منها ڤايد أحمد وشريف مساعدية. استغل بوشامة حضوره ليرد في المناقشة بأنه لم يكتب مذكرات ياسف سعدي (جاره في السكن)، بل كتب نصوصا لكتاب ابنته السيدة زفيرة سعدي، الذي به لوحات عن معالم مدينة الجزائر القديمة، عنوانه ”قلب الجزائر”، وقريبا سيشاركها في كتاب عن الأمير عبد القادر. المناقشة كانت ساخنة جدا وحميمية، سادتها روح الدعابة التي خلقها السيد بشيشي. كما تدخّل فيها بعض الحضور، منهم المجاهد علي هارون، الذي عاد إلى ضرورة كتابة تاريخ جبهة التحرير، التي أصبحت أسطورة في كل العالم حتى في بوليفيا وأستراليا، بينما يجهل عنها أبناؤنا الكثير.