كان اليوم الثاني من الرحلة حافلا جدا بالنشاطات، حيث استطعنا زيارة العديد من المواقع والأماكن السياحية الجذابة بإسطنبول، على غرار الأسواق التاريخية، هضبة بيار غوتيه المطلة على القرن الذهبي، كما لم نضيع فرصة القيام برحلة بحرية في مضيق البوسفور الحلم، الذي تستعد تركيا لجعله معبرا سياحيا 100 بالمائة ضمن خطة قناة مضيق البوسفور التي ستختص بالسفن التجارية. غادرنا أيا صوفيا والمسجد الأزرق، ونحن منبهرون بجمالهما وروعة التقاسيم والتصاميم والهندسة المعمارية والألوان والسجاجيد المفروشة بهما، وغير بعيد عنهما لاحظنا حركة سياحية كبيرة، حيث تجد أمامك شبابا وفي أيديهم “كروتا” سياحية يطلبون منك قبول دعوة الالتحاق بسفنهم السياحية في جولة إلى القرن الذهبي أو مضيق البوسفور، من خلال اقتراح أسعار مختلفة ولك حرية الاختيار حينها. وغير بعيد عن المكان، اِلتف السياح حول المحلات الموجودة هناك، والتي تعرض تحفا فنية مختلفة من الحرف التقليدية التركية على غرار الأنسجة والزرابي مختلفة الأحجام والسبحات، إلى جانب الخزف ومجوهرات حريم السلطان بأشكال، ألوان وأحجام مختلفة تسافر بمشاهدها إلى عصر الملك سليمان ومن تبعه من ملوك وسلاطين في الفترة العثمانية القوية. حدثنا الدليل السياحي شريف عريق عن أماكن سياحية عديدة، إلا أن ضيق الوقت حال دون زيارة العديد منها، لكننا مع هذا اجتهدنا في مشاهدة الكثير، وفي كل شارع ندخله كان يُشرح لنا خاصيته ومميزاته، كما مررنا على محطة القطار التي تقع في منطقة اسمها “سيركيجي” أو بائع الخل، وكذا الأماكن الهامة التي يتم فيها تصوير المسلسلات التركية والمتمثلة في حدائق خضراء غناء مطلة على بحر مرمرة، تتوافد إليها العائلات في نهاية الأسبوع لتناول غذائها الذي تحضره هناك في جماعات، حيث تستمتع بخضرة البر، زرقة البحر وجمال المناظر الطبيعية الرائعة، وغير بعيد عن هناك توجد محلات مختصة في شيّ السمك على الهواء الطلق.
مينياتورك... متحف المعمار والجمال عند وصولنا إلى متحف مينياتورك، عرض علينا الدليل طلب “الكروت” حسب اللغة المفضلة لدينا، إذ يكفي احتكاك “الكارت” بالمجسم الموجود هناك ليعطيك كل المعلومات التاريخية الوافية حوله. والمينياتورك- أو تركيا الصغيرة- حديقة تسر الناظرين، تقع على مساحة 60 ألف متر مربع، مما يجعلها أكبر مدينة مصغرة في العالم، جمعت بين جوانبها الحضارة، التاريخ وجمال الطبيعة، تضم المعالم الرئيسية لمدينة إسطنبول بصورة مصغرة، بها 150 مجسم، 45 منها لمعالم اسطنبول و45 لأنتاليا. كل مجسم احتفظ بالشكل واللون الحقيقي للمعلم الأصلي، تتواجد أمامه حديقة صغيرة ازدانت بالأزهار والنباتات التي زادت المكان بهاء وجمالا، كل الأجناس البشرية التفت حول المجسمات لتغوص في التاريخ وتنجذب نحو الأصوات المنبعثة من الآلات التي تروي بإسهاب ماهية كل مجسم، ما لاحظناه حينها هو أن العربية، التركية، الإنجليزية والقليل من الفرنسية هي اللغات الطاغية على المكان. والملاحظ أيضا أن الأطفال المهتمين بالتاريخ كانوا يحملون كروت الاستماع وينتقلون بين المجسمات كالفراشات، فارضين على أهاليهم الاستماع إلى ما ترويه الآلة. ولم يغفل الزوار التقاط صور في مختلف الأماكن، كل حسب ميولاته، فالشباب اختار جسري البوسفور ومحمد الفاتح، إلى جانب ملعب تركيا الكبير لكرة القدم، في حين مالت الفتيات والنساء إلى القصور والمعابر والأماكن التاريخية الجميلة على اختلافها؛ العثمانية واليونانية، ليلتقطن صورا للذكرى. الأطفال الصغار أيضا أخذوا حقهم من الرفاهية، حيث توجد بالحديقة مجموعة من الألعاب في جناح خاص، أرضيته مهيأة خصيصا ليتسنى لهم اللعب دون الإصابة بجروح عند السقوط، ،كما يقدم أصحاب الأكشاك نوعا من البطاطس المقلية الطازجة خاصة بتركيا، إذ يقوم أصحابها بتحضير حبة البطاطس على شكل لولبي يغري الصغار والكبار، ويشترك الآباء والأبناء في تناولها والتلذذ بطعمها، مستمتعين بجمال المكان وهدوئه التام.
هضبة “بيار غوتيه “المطلة على القرن الذهبي وجهتنا التالية كانت نحو مقهى بهضبة “بيار غوتيه” التي يمكن من خلالها مشاهدة الكثير من المعالم السياحية والأماكن التاريخية بإسطنبول، علاوة على الاستمتاع بجمال القرن الذهبي في جو شاعري هادئ، من هناك يظهر المصبّ على هيئة قرن بإسطنبول الأوروبية، يتجه من البسفور غربا فيفصل القسم الأوروبي إلى شطرين، طوله 4 أميال وعرضه نصف ميل، ويتم العبور من فوقه بواسطة جسرين عائمين، حيث يمكنك مشاهدة العديد من الأماكن التاريخية والسياحية، منها مزار يوب كامي “وهو مسجد وقبر الصحابي أبو أيوب الأنصاري” رضي الله عنه، يعد من بين الأماكن المشهورة التي يتردد عليها الزوار بكثرة. ويختار الأتراك ذلك المكان للاستمتاع بالهدوء وجمال الطبيعة الساحر، حيث تختلف ألوان الأشجار المتراصة بين البني الفاتح والرمادي، خاصة أن الشتاء كان في أوجه، رغم أننا لم نصادف حتى زخات المطر، حيث قال دليلنا مازحا؛ “سبحان الله تركيا سعدت بلقائكم لدرجة أن الأجواء منتعشة، في مثل هذا الوقت من شهر فيفري تعودنا على تهاطل الأمطار”. في ذلك المكان، كانت جواهر حريم السلطان والاكسسوارات حاضرة بقوة، على غرار الأطقم الفضية المطعمة بالأحجار الكريمة على اختلاف أشكالها وأحجامها من سفير، زمرد وياقوت، إلى جانب ماسك الشعر، المرايا الذهبية والخواتم التي “جنّنت” النساء اللائي وقفن محتارات أمام أشكالها المبهرة، غير أن خاتم “هيام” الخرافي أخضر اللون نال حصة الأسد من المبيعات، خاصة بعد رواج سلسلة “حريم السلطان” التي غزت الفضائيات. ولأن القائمين عليه خبراء في طريقة التعامل مع السياح، وظفوا استوديو تصوير يخلد الذكرى حافلا بمختلف الألبسة التقليدية التركية، مع الألبسة الفاخرة، على غرار فساتين الملكات، ملابس الملوك والقبعات على اختلاف أنواعها، فهذه للسلطان وتلك للأغا وغيرها، حيث يمكن أن تصبح حينها ملكا في ثوان وتحصل على صورة مقابل 10 ليرات، وسط ديكور ملكي فاخر.
مملكة حلوى الحلقوم- اللقيمات- ولا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال مشاهدة ساحة “تقسيم” أو شارع الاستقلال لشهرتهما، وكذا السوق المصري، والمقصود بهذه التسمية هو “سوق الذرى”، لأن اسمها بالتركية “مصر”، يتوفر على كل أنواع الفواكه الجافة والتوابل التركية، بالإضافة إلى التحف، وأشار السيد شريف إلى أن “تقسيم” والأماكن المجاورة لها مقصد الأثرياء عبر العالم، حيث تباع بها كل الماركات العالمية بأسعار باهظة. جلنا وسط المدينة وما شد انتباهنا؛ كثرة محلات بيع حلوى “الحلقوم” تركية الأصل التي تفنن أصحابها في عرض أنواع وأشكال، ألوان وأذواق مختلفة منها، على غرار حلوى “الحلقوم” بالرمان، و"اللقيمات” بالفواكه الجافة والتين الأبيض الشهير في المنطقة وهو من أجود الأنواع، “الحلقوم” بالمكسرات “البندق، اللوز والجوز” و"الحلقوم” بالزعفران، حيث يصعب تقبل الفكرة لكن بمجرد أن يلامس الطعم فمك حتى تستطعمه، تتلذذ به وتعشقه، إلى جانب عرض العشرات من التشكيلات التي يحبذ زوار تركيا أخدها كهدية للأهل، الخلان والأحبة، وتختلف الأسعار حسب الذوق والمكونات.
جولة في مضيق البوسفور في المساء، كنا مدعوين إلى جولة بحرية للتعرف على مضيق البوسفور، ركبنا باخرة “روتانا” التي انطلقت على الساعة التاسعة والنصف مساء، بعدما استمتع ركابها بتناول وجبة عشاء تركية بكل المقاييس، زينت بالأرز الأبيض والصوص، مع اللحم المجمر والمشوي، مصحوبة بقهوة تركية حسب الطلب، حيث شقت عباب البحر في ذلك المضيق المتعرج الذي يفصل أوروبا عن آسيا، إذ يمكن على ظهرها مشاهدة أهم معالم اسطنبول على غرار الجسرين المعلقين، قصر دولما باشا وحصن روملي، علما أن مضيق البوسفور يصل بين البحر الأسود وبحر مرمرة، ويعتبر مع مضيق الدردنيل الحدود الجنوبية بين قارة آسيا وأوروبا، يبلغ طوله 30 كم ويتراوح عرضه بين 550 و3000 متر، به جسران يزينان المكان ليلا بأضوائهما، ضوء واحد منهما بنفسجي، والآخر وردي غامق. افتتح جسر البوسفور عام 1970 م، ويعتبر أشهر جسر في العالم يربط بين قارتي آسيا وأوروبا، إذ يسمح بمرور أعلى البواخر، حيث يبلغ طوله 1.560 م وارتفاعه عن سطح البحر 60 مترا وعرضه 33.4 م، ويشغل موقعا مميزا في شبكة النقل التركية كونه يربط طرق إسطنبول الرئيسية، وهو جسر رائع. أما الجسر الثاني، فهو جسر السلطان محمد الفاتح الذي افتتح في عام 1988م، يقع قرب مخرج البحر الأسود شمال جسر البوسفور، ويصل بين مقاطعة حصار أوستو من الجزء الأوروبي، ومنطقة كاواجيك من الجزء الآسيوي... هناك على ظهر السفينة قدمت لنا جملة من العروض الترفيهية كالطرب، حيث اجتهد المطربان اللذان كانا على متنها في تقديم العديد من الأغاني العالمية والشرقية للمطرب عمرو دياب، وأغنية جزائرية لرشيد طه “عبد القادر يا بوعلام”، كما قدم الفريق صورة مميزة عن الكد، الجد والعمل، من خلال الساحر الذي قدم عروضا مميزة أشرك فيها السياح، أو الراقصين الذين عملوا على نشر البهجة في المكان، وأظهرت النادلة البسيطة أوجها كثيرة في احترام الزبائن والعمل على إسعادهم بكل الطرق، كانت تجول بين الطاولات كالفراشة رغم أنها أربعينية... سألتها: ألا تشعرين بالتعب؟ فردت: لا، بالعكس، فراحتي تكمن في شعوري باستمتاع الضيوف بالوقت الذي يقضونه هنا، فمن أولويات عملنا تحقيق الرفاهية والراحة للزبائن، إنه الشعار السياحي الذي نعمل به... كانت إجابتها كفيلة بشرح آلية الشعور بالراحة التي يعرفها كل من يقصد ذلك البلد... أمضينا على ظهر السفينة قرابة أربع ساعات... شخصيا استمتعت بها وتعلمت منها الكثير. يتبع .. مبعوثة "المساء" إلى تركيا: أحلام محي الدين