جولة في اسطنبول بعيون أورهان باموق نشرت صحيفة النيويورك تايمز نهاية شهر جانفي الماضي مقالا لكاتبها جوشوا هامرجان عن زيارة قام بها برفقة الكاتب التركي الشهير أورهان باموق الحائز على جائزة نوبل للآداب، في مدينة اسطنبول التي خلدها في رواياته و هنا ترجمة له. بقلم جوشوا هامرجان ترجمة: عمر شابي في مساء عاصف ماطر منتصف ديسمبر جلس الكاتب أورهان باموق وسط ساحة تغطيها أوراق الأشجار المتساقطة في زاوية حول جامعة إسطنبول،مستغرقا في أربعين سنة من الذكريات، مر وسط الدراجات المركونة و أشجار عملاقة واقفة و نافورة ماء تنبع من الحجر، يقلب وسط كومة من الكتب المستعملة في محلات تحتل الطابق الأسفل من مربع وسط بنايات صفراء اللون "ساهافلار كارسيسي" بازار الكتب المستعملة في اسطنبول كان نقطة جذب لكل ألوان الأدب منذ العهد البيزنطي. في بداية السبعينات كان السيد باموق وقتها طالبا يريد أن يصير رساما، محبا للأدب الغربي، يتنقل من منزله في القرن الذهبي لشراء ترجمات تركية لكتب توماس مان و أندري جيد و آخرين من كتاب أوروبا "كان والدي لطيفا بمنحي المال، كنت آتي إلى هنا صباح السبت في سيارته و أملأ الخزانة الخلفية للسيارة بالكتب". يتذكر صاحب جائزة نوبل للأدب وهو يقف إلى جانب تمثال نصفي لإبراهيم متفريقه الذي قام بطبع أول الكتب في تركيا و كان قاموسا عربيا –تركيا سنة 1732. "لا أحد الآن يريد أن يكون هنا صباحات السبت، كنت هنا متحدثا و مخاطبا ممازحا و محاورا وكنت أعرف كل واحد تقريبا و الآن تغير كل شيء" يقول باموق مشيرا إلى الجو السياحي و تلاشي الشخصيات التي كان يعرفها من قبيل بائع مخطوطات الذي صار واعضا صوفيا و الآن لا أزور المكان سوى كل سنة مرة. ولد أورهان باموق على بعد ثلاثة أميال وصف من بازار الكتب المستعملة في حي "نيسانتاسي" الراقي سنة 1952 لرجل أعمال بدد معظم ثروته في سلسلة استثمارات سيئة، وكبر محاطا بالأقارب و الخدم، لكن المشاحنات بين والدته و أبيه، و الشعور الملازم لها حول تشتت العائلة جعل طفولته مشحونة بعدم اليقين والحزن المتواتر. لأكثر من ستة عقود بعدها لا يزال باموق مقيما في إسطنبول مرة في "نيسانتاسي" و أخرى في "سيهانجير" على ضفة خليج البوسفور و كانت إسطنبول محط كتاباته كما كانت لندن لشارلز ديكنز و القاهرة لنجيب محفوظ. فروايتاه "متحف البراءة" و " الكتاب الأسود" و كتاب السيرة الذاتية "إسطنبول الذكريات و المدينة" تتحدث عن مدينة ساحرة و غاضبة في نفس الوقت، تتحسر على فقدان الإمبراطورية و تتمزق بين صراع العلمانية و الإسلام السياسي مفتونة بالغرب. أغلب شخصيات باموك من عناصر النخبة العلمانية الذين تدور قصص حبهم و رغباتهم و هوسهم في المقاهي و غرف النوم في قلة من الأحياء المجاورة. " قمت بأول رحلاتي إلى الخارج سنة 1959 حينما ذهبت إلى جنيف لقضاء عطلة الصيف مع والدي، و لم أغادر اسطنبول منذ وقتها حتى سنة 1982" قال باموق مضيفا "أنا ملك هذه المدينة". طلبت من باموق عبر رسالة بالبريد الإلكتروني إن كان لا يمانع في مرافقتي في جولة بالأحياء التي شكلت شخصيته و ساهمت ي تكوينه ككاتب، و بعد عدة زيارات أردت أن أغوص أبعد مما يفعله السائح و أرى المدينة بعيونه مكانا لتاريخ ملحمي ذات روابط شخصية عميقة، وافق السيد باموق على الفور و بعد شهرين التقيته في شقته في حي "سيهانجير" المطل على المسجد الحامل لنفس الاسم من القرن التاسع عشر كقطعة واحدة تحيطها بها المنارات ووراءه البوسفور المضيق الذي يصنع الحدود بين أوروبا وآسيا. كتب في "إسطنبول" أنه يفضل المدينة في الشتاء عن الصيف ومن شرفة شقته يراقب السحب والظلال و الشتاء القادم و الشمس المنزوعة من الغيوم و لو كان اليوم مشمسا للغاية لصار غاضبا قال إنه يفضل المدينة بالأبيض والأسود وناسها يهرعون تحت معاطفهم الشتوية كما كتب عنها. التقيته و كان بصدد تنقيح آخر رواياته بعنوان "غرابة في ذهني" التي من المنتظر أن تصدر بالإنكليزية سنة 2015 تروي حياة بائع متجول في المدينة منذ السبعينات حتى الوقت الحالي، اعترف باموق انه ممتن للتوقف قليلا عن عمله " أنا مهووس بعملي، لكنني أحبه" ارتدى معطفا شتويا و وضع قبعة لاعبي البيسبول سوداء على رأسه لعله يكون متنكرا كما رغب بنصف قلبه. في سنة 2005 رد باموق على سؤال بشأن قمع حرية التعبير في تركيا بالقول" مليون أرمني و 30 ألف كردي قتلوا في هذه البلاد و أنا الشخص الوحيد الذي يتكلم عن ذلك" كانت نتيجة تلك الملاحظة الانتقادية التي نشرتها جريدة سويسرية تلقي باموق تهديدات بالقتل و حملات تشويه في الصحف التركية و اتهامات من المدعي العام بشأن "الانتقاص العلني من الهوية التركية". و أجبر باموق على الهرب من البلاد لمدة عام تقريبا و كان ذلك أطول فراق له للبلاد. و تم إسقاط التهم في جانفي 2006 بعد تنديد عالمي و قلت حدة التهديدات، لكن ذلك لم يمنع الكاتب الحائز على جائزة نوبل من التنقل احيانا برفقة حراس شخصيين، خاصة في جولاته الليلية، و يحس الآن بأمان نسبي. في هذا المساء الملبد بالغيوم تابعنا جولتنا في طرق ملتوية تحاول أن تتوازى مع البوسفور، أخذتنا نحو قلب حي "سيهانجير"، الذي كانت تعمره إلى وقت قريب جالية يونانية كبيرة. في الستينات حينما كان باموق طالبا في كلية روبرت النخبوية المرموقة على أعلى البوسفور اندلعت فورة حماس وطنية على خلفية النزاع في جزيرة قبرص و كانت ذروتها قرار الحكومة التركية بطرد اليونانيين المقيمين في الحي و برحيل طبقة التجار صار "سيهانجير" حي الأضواء الحمراء في اسطنبول. "كتبت رواية في البدايات هنا في السبعينات في شقة جدي" قال باموق متذكرا كل ليلة كنت أستيقظ على أصوات صراخ النساء و حراسهن الشخصيين – حماتهن من الذكور- و شجارات زبائنهن و هم يلقون بالأحزمة من النوافذ. الحي صار حاليا مكانا للفنانين و الكتاب و فيه مقاهي راقية و محلات بيع التحف القديمة و فيه شقق للكراء في عمارات شاهقة. أحد محركات عودة الحياة إلى سيهانجير كان إبداعا من باموق نفسه و هو متحف البراءة الذي فتح سنة 2012 في طريق مؤدي الى القرن الذهبي الذي يربط خليج البوسفور ببحر مرمرة و المتحف فقاعة متحجرة في الزمن تحتفظ باسطنبول السبعينات، و قد كان إنجاز المتحف من وحي رواية باموق بنفس العنوان متحف البراءة التي صدرت سنة 2008، و التي تحكي قصة رجل الأعمال كمال بسماتشي الذي وقع في حب فتاة فقيرة تعمل بائعة في متجر اسمها فوسون و صار مهووسا ليجمع كل أثر و كل شيء يذكره بلقائهما. قام باموق بتأسيس المتحف بنفسه، و الذي تم تصميمه لكي يجمع مقتنيات شخصيات رواياته من المتاجر و من موروثات عائلته. و فيه زجاجات كولونيا بلورية، و كلاب خزفية و بطاقات بريدية لمدينة اسطنبول و 4213 علبة سجائر للمعشوقة فوسون و كل واحدة منها في نافذة صغيرة. "لم أكتب رواية منذ سنوات، و لدي أعذاري " قال لي باموق " أنجزت متحفا في ما بين روايتين". زرنا ساحة كراكوف و مررنا بشارع فيه مواخير أغلقتها الحكومة و تحرسها الشرطة، و هنا لباموق ذكريات حية من طفولته و أراني صفا من محلات بيع الدراجات الهوائية و من أحدها اشترى له أبوه أول دراجة و على بعد أمتار ممر يقود الى نفق هو أحد أقدم المعابر تحت الأرض، بناه مهندسون فرنسيون و بدأ سنة 1875 بربط ساحة كراكوف بحي السفارات في مركز حي بيوغلو و هو سكة لقطار يجر عربتين خشبيتين فيهما عربات منفصلة للنساء و الرجال. نموذج قديم من مترو الأنفاق "سقطت الإمبراطورية و ليس هناك معبر آخر تحت الأرض للعربات في تركيا لأكثر من 120 سنة" قال باموق الذي كان يحب ركوب العربات الخشبية مع والديه في طفولته. توقفنا للغداء على جسر غالاتا و هو بناية من الإسمنت و الفولاذ أنجزت سنة 1994 مع ممرات في الإتجاهين، و تذكر باموق كيف عضه كلب قبل 13 سنة حينما كان يقوم بالتجول ليلا في هذا المكان الذي تظهر من خلاله القبة النحاسية لمبنى هاجيا صوفيا -المعروف بمسجد آيا صوفيا- الذي بني ككنيسة يونانية أرثوذكسية فتحت أبوابها سنة 537 بعد الميلاد و تحولت الى مسجد بعد غزو المسلمين للقسطنطينية سنة 1453، و صارت علمانية بقرار من مؤسس تركيا الحديثة كمال أتاتورك الذي حولها الى متحف سنة 1935. " لدي اهتمام قليل بالبيزنطيين و أنا طفل" كتب باموق في كتابه اسطنبول مضيفا " كنت أربط كلمة بيزنطي بالأشباح، ملتحين و في شكل الرهبان اليونان الأرثوذوكس الذين يرتدون لباسا أسود طويلا ،و مع قنوات المياه التي لا تزال تعمل في أرجاء المدينة و مع آيا صوفيا و جدران الآجر الأحمر للكنائس العتيقة". حمى نزاع قضائي عقاري هذا الجزء المطل على الماء أين تناولنا الغداء و كان يبدو كقطعة مهملة في قلب المدينة و هو أحد الأماكن المفضلة للسيد باموق " كل طفولتي تشبه هذا المكان، لكن هل تكون كذلك بعد 20 عاما؟ لا جدال في ذلك". كان متأكدا أن النمو السريع للعمران سيسيطر لا محالة على القطعة المنسية. واصلنا على جسر غالاتا المركز التاريخي للمدينة و شاهدنا قوارب تنقل السياح أسفل القرن الذهبي، و مررنا بمسجد السلطان أحمد و على الضفة الاخرى مرتفعات سيهانجير "كان هذا المكان في الأصل جسرا خشبيا و كان عليك أن تدفع ثمن عبورك له" قال باموق متذكرا طفولته "و لكن بإمكانك أيضا استئجار عبارات عائمة أتذكر أمي و هي تأخذني عبره من خلال القوارب في الخمسينات". على بعد نصف ميل أسفل القرن الذهبي تم فتح جسر جديد يحجب بياضه أحد أكبر مساجد اسطنبول و تماما مثل مشروع رجب طيب اردوغان المجهض بإزالة حديقتي جيزي و تقسيم و بناء محلات مكانهما على شاكلة البيوت العسكرية العثمانية كان مشروع الجسر الجديد مثار جدل و خلاف و انقسم سكان المدينة على أساس اجتماعي و اقتصادي، فقد دعمت الطبقة اللبرالية من النخبة بقوة الحفاظ على مركز الإرث العثماني للمدينة، بينما رحب الإسلاميون الفقراء بإزالة هذا الجزء القديم. قبل قرن كانت "كل البواخر القادمة من بحر مرمرة من خلال البحر المتوسط ترسو هنا" أخبرني باموق. و كما حكى في روايته "اسطنبول" وصل إلى هنا غوستاف فلوبير في أكتوبر 1850 ليستقر على مدار ستة أشهر و كان قد رحل مرعوبا من داء السفلس الذي ضرب بيروت، لكنه وجد طريقة للتقرب من مواخير المدينة و كتب عن "عاهرات المقبرة" اللوتي يخدمن الجنود ليلا. و هناك شخصية مشهورة أخرى زارت اسطنبول في تلك الفترة هو الكاتب و السياسي الفرنسي ألفونس دولامارتين، الذي وصف الأطفال على الجسر يصرخون تجاه السياح قائلين "سيدي أعطني جنيها" وواصل باموق قائلا في الرواية "كان السياح يلقون بالنقود في البحر و على الأطفال القفز من أعلى الجسر لالتقاطها من عمق الماء و تصبح ملكا لهم. على القسم الجنوبي من القرن الذهبي دخلنا وسط زحام كثيف من الناس بازار الباهارات و ولجنا حي إيمينونو، و كان باموق في طفولته منبهرا بالسلاطين العثمانيين و الباشاوات الذين كانوا يحكمون العالم من هذا المكان في اسطنبول و هو أيضا مكان التمردات و الانقلابات و السجون السرية أين كانت تسلط أقسى العقوبات و أكثرها ترهيبا. و كتب باموق في روايته أن "مكانا واحدا في إيمينونو بني خصيصا ليكون ما يعرف بالمعلق" يقصد المشنقة و مضى في الرواية حاكيا " لا يلبس المحكوم عليه سوى رداء واحدا هو الذي خرج به من بطن أمه، و يتم رفعه بالحبال يمسك به حديد تعليق حاد و حين يتم ارخاء الحبال يترك ليسقط في قعر سحيق".(هذا نوع من الاعدام قد يكون أصليا و يتشابه مع الحكايات عن "كاف شكارة" في أعالي قسنطينة بالقصبة أيام حكم العثمانيين).