تتميز مدينة قسنطينة بعادات وتقاليد عريقة وأصيلة جعلتها تستحوذ على مزيج من الحرف والصناعات التقليدية الفريدة من نوعها لتطبع ميزتها عبر حقبات الزمن المتعاقبة، حيث تحاكي جمال المدينة التاريخية وعراقتها المتوارثة عبر الأجيال. فرغم الصعوبات والعوائق، اختار سكانها المحافظة على عاداتهم عبر الحرف، منها مهنة النحاس التي لا تزال إلى غاية اليوم تصارع الزمن وترفع التحدي لتواصل مسيرة أجيال اختارت مزاولة مهنة عريقة لها وزنها على مستوى الوطن والعالم العربي والغربي أيضا، وتبقى مطلب مختلف شرائح المجتمع رغم العراقيل ونقص الإمكانيات المادية والتشجيعات المعنوية التي أثرت سلبا على استمرارية هذه الحرفة. تعتبر حرفة النحاس من الصناعات اليدوية التقليدية التي تشتهر بها مدينة الجسور المعلقة وتعاني من خطر الاندثار، بسبب غياب الآفاق والميكانيزمات التي من شأنها أن تساهم في تطويرها والحفاظ عليها من الزوال، إلى جانب إعادة تثمينها وإحيائها. فلم يخف معظم الحرفيين المتواجدين بقسنطينة معاناتهم في ظل نقص التأطير والمرافقة من طرف الجهات المعنية، مؤكدين أن الخطر يعود بالدرجة الأولى إلى نقص التكوين والتمويل، حيث أشاروا إلى أن هذا الفن المتوارث عن الآباء والأجداد عرف أزمات عديدة كان من أسبابها العزوف من قبل المهنيين الذين خضعوا للأمر الواقع بعد العديد من المحاولات الفاشلة، حسبهم، لمواجهة العوائق المفروضة عليهم، خاصة إذا ما اصطدموا بواقع غلاء المادة الأولية وندرتها، كما أن أوراق النحاس المعروضة بالأسواق المحلية “من النوع الرديء في المقابل تباع لهم بأسعار باهظة”، إنها الحقيقة المرة التي جعلت السوق لا يخضع للمراقبة والمعايير الجيدة، ومنه تجبر الحرفيين على التخلي عن هذه الصنعة الذهبية في غياب عوامل التحفيز التي غالبا ما تأتي كنتيجة لتوفر الظروف الجيدة للاستمرارية. جولة ميدانية قادتنا إلى قرية الحرفيين الكائنة بالمنطقة الصناعية بوصوف، حيث لاحظنا أنها لا تتوفر على أدنى شروط العمل، بدءا من نقص الإمكانيات المادية والبشرية، وصولا إلى انعدام العنصر الأمني، مما جعل القرية المستحدثة من طرف الولاية بمنطقة بعيدة عن وسط المدينة تتحول إلى مرتع آمن للمنحرفين، وهي عوامل دفعت الحرفيين إلى غلق محلاتهم التي تنعدم بها أساسا مجمل الضروريات اللازمة لممارسة النشاط الحرفي، هذه الوضعية أثارت استياء وتذمر حرفيي الولاية، وجعلتهم يتخبطون وسط شبكة من النقائص والمشاكل رغم أنهم غالبا ما يفتكون علامة الجودة في صناعة النحاس على المستوى الوطني في وقت تحتل فيه المدينة الريادة في الصناعات النحاسية بشهادة الجميع.
مستقبل الحرفة وتطورها مرهون بنوعية وأسعار المادة الأولية من بين الأسباب التي ساهمت في تراجع حرفة النحاس بمدينة سيرتا، غلاء المنتجات النحاسية الذي يعود بالدرجة الأولى إلى غلاء المادة الأولية المستوردة من الخارج التي تتأخر في الموانئ الوطنية، وهو ما يصعب عامل التزود بالمادة الأولية بالأسواق، فضلا عن مشكل السوق الموازية التي تضع بثقلها على الحرفيين المسجلين بالغرفة، فضلا عن نقص المحلات وفضاءات تعليم الحرفة يدويا، وهو ما جعل الحرفيين يطالبون الجهات الوصية بضرورة الالتفات لوضعيتهم، من خلال توفير محلات حرفية وسط المدينة حفاظا على الموروث الثقافي للمدينة المقبلة على استقبال تظاهرة عربية في عام 2015، لتقترح مجموعة من الحرفيين ضرورة تمكينهم من منطقة حرفية قانونية تجعلهم يزاولون حرفتهم بطريقة تساهم في المحافظة على هذا الموروث الثقافي والتاريخي، حيث اقترحوا استحداث قرية وسط المدينة لا بمخارجها التي تتمثل في منطقة حي رحماني عاشور المعروفة بمنطقة “باردو”، حيث كانت في الماضي معروفة بصناعة النحاس، إلا أن القرارات العشوائية ساهمت في تغيير المكان، مما ساهم كثيرا في تهميش الحرفة. من جهة أخرى، أشار حرفيو النحاس إلى أن أوراق النحاس المعروضة في الأسواق المحلية هي من النوع الرديء وتباع بأسعار باهظة، معتبرين الأسواق لا تخضع للمراقبة ولا تفسح المجال للحرفي ولا تحفزه أساسا على العمل والمبادرة. فقد مضى الوقت الكافي لكي يتخذ المسؤولون المحليون الإجراءات الضرورية لحماية هذه الصنعة اليدوية التي لا تقل أهمية عن باقي الصناعات الأخرى لما يمكن أن تجنيه من أموال وتمتصه من يد بطالة، حيث تلاحظ أن معظم حرفيي النحاس بمدينة الصخر العتيق دخلوا مرحلة التقاعد في فترة متقدمة بسبب العراقيل والمشاكل التي وقفت في وجوههم، حيث يقضون جل أوقاتهم في تنظيف القطع القديمة المصنوعة من النحاس داخل محلاتهم الصغيرة.
ضرورة استحداث قرية متكاملة وتحفيز الشباب على مزاولة الحرفة أثرت المشاكل والعراقيل التي تواجهها حرفة صناعة النحاس سلبا على اهتمام فئة الشباب في تعلمها حتى أضحوا لا يولون أي اهتمام لها، لأنها في نظرهم غير مربحة ولا تلبي احتياجاتهم. ويبرز غلاء أسعار المادة الأولية وانعدام المساعدات التي من شأنها الإسهام في تجاوز الصعوبات على قائمة العوائق التي تعرقل مشروع استحداث ورشة لصنع منتجات نحاسية، حسب ما أوضحه مسؤولون بغرفة الصناعة التقليدية والحرف، مؤكدين على تلقي عدد “قليل” فقط من طلبات الحصول على بطاقة حرفي مختص في صناعة النحاس. وأكد لنا الشباب الحرفي أن التفكير في العمل ضمن حرفة النحاس دون مستقبل، باعتبارها حرفة سائرة في طريق الزوال، وفي حديثنا لبعضهم، أوضحوا أن غلاء المادة الأولية يعتبر السبب الأول والرئيسي وراء عزوف الحرفيين عن العمل والاستمرار في بعث هذا الموروث الفني الأصيل، كما أن نقص تكوين وتأطير الشباب الراغب في تعلم الصنعة بمراكز التكوين المهني يقف مانعا دون تعلمهم لهذه الحرفة، خاصة أن المدة المخصصة لتعلم الشباب بالمراكز لا تتعدى ال 18 شهرا، نفس المشكل أثاره حرفيون بمنطقة الرصيف، حيث أكدوا أن الحرفة ستندثر إذا لم تتدخل الدولة لتوفير المادة الأولية، مطالبين بضرورة توفير الإمكانيات اللازمة للحفاظ على هذا الإرث العريق، خاصة في ظل عزوف اتحاد الحرفيين عن مساعدة الحرفيين في إيجاد محلات لائقة بمهنتهم .
الموروث الحرفي باق والمواد النحاسية ضرورة في البيوت القسنطينية رغم المشاكل التي تعاني منها هذه الحرفة العريقة، إلا أنها مازالت تقاوم الاندثار والزوال، متحدية بذلك كل التطورات والتغييرات، وهو ما وقفنا عليه عند الحديث إلى الأسر القسنطينية التي أكدت أنه رغم كل ما قيل، إلا أن جل بيوت القسنطينيين لا تكاد تخلو من الأواني النحاسية ولو قطعة صغيرة منها، كما أن غلق بعض المحلات بوسط المدينة أو تغيير نشاطها رغم تأثيره السلبي على حرفة صناعة الأواني النحاسية، لم يقف حائلا أمام هذه الحرفة التي بقت صامدة، فالأواني النحاسية بمدينة قسنطينة ضرورية جدا في كل منزل، حيث تحمل إبداع الكثير من الحرفيين الذين عمدوا إلى تخليد الأماكن الجميلة في المنطقة، من خلال نقشها على الصينيات وأواني الزينة وغيرها من الأواني المنزلية التي كانت تحمل صور الجسور المعلقة، أو ما يرمز إلى عادات عاصمة الشرق، كالملاية وأبواب المدينة، وكذا منبع المياه لسيدي الجليس أوعين الباي، إلى جانب أبواب المدينة القديمة. حرفة النحاس بالولاية لا تزال صامدة في وجه الصعوبات، وهو ما يستوجب من المسؤولين والوزارة الوصية أن تعطي أولوية وأهمية قصوى لهذه الحرفة التي من شأنها المساهمة في إنعاش القطاع وجلب مداخيل هامة، فضلا عن كون الحرفة تجسد تاريخ وعراقة التقاليد الوطنية التي يستوجب المحافظة عليها.