''صنايعية'' النحاس في قسنطينة عندما يتحوّل الحرفي من الفنان المبدع إلى الباحث عن ''الخبزة'' تسببت المنتجات الآسيوية، سيما الصينية، التي غزت أسواقنا في ضياع عشرات الحرف.. صنعة ''النحاحسية'' إحدى هذه الحرف المهددة بالفناء.. صنايعية النحاس في قسنطينة يعانون في صمت، بين مواجهة ''المد الآسيوي'' وغياب المادة الأولية، وأملهم معلق على تظاهرة ''قسنطينة.. عاصمة الثقافة العربية''. لا تزال حرفة ''النحاحسية'' تصارع من أجل البقاء، في المهد الذي ولدت به في قسنطينة، وقد عرفت الكثير من المطبات بفعل وتيرة العيش السريع واختيار المشتري للجاهز والآني، بديلا عن الأواني التقليدية التي كانت تستعمل منذ العهد العثماني، والتي تأخذ وقتا في الإنجاز، وقد أخذ اختفاؤها معه الصبغة التقليدية المحلية للنحاس. وإن اختارت فئة قليلة من الحرفيين الدفاع عنها ومحاولة نقلها للأجيال القادمة، إلا أن المهمة تبقى صعبة، وتحتاج لدعم كبير من أجل المحافظة على حرفة صناعة النحاس، التي تساهم قسنطينة ب70 بالمائة من الإنتاج الوطني فيها. يسعى العديد من حرفيي النحاس والمحافظين عليه، ممن انتقلت لهم الصنعة عن طريق الوراثة، أو بواسطة التعلم بعاصمة الشرق، من أجل إعطاء دفع جديد لهذه الحرفة التي يعشقها الأجانب ويأتون خصيصا من أجلها من دولهم، إلى محلاتهم الضيقة والصغيرة التي لا تزال قائمة على طبيعتها الأولى، للظفر بقطعة من النحاس الجميل المنقوش بطريقة يدوية تعتمد على وسائل تستخدم منذ الخمسينيات، وأحيانا لبعض القاطنين بقسنطينة إبان الاستعمار الفرنسي، والمغتربين الذين يأخذون الحنين لها، ويقترحون مبالغ ضخمة من أجل الحصول على الكنوز النحاسية وأواني نادرة يحملونها معهم إلى ما وراء البحار، فهي تحمل في طياتها ذاكرة الأمة، من خلال لوحات منقوشة ترسم حياة معينة، أو أشخاص عاشوا بها في زمن مضى. كما أن الجميل في الأواني واللوحات النحاسية أنها تعيش لقرون، ويمكن اعتبارها أرشيفا للأجيال. بالمقابل، فإن مهنة صناعة النحاس، وأمام إصرار محبيها على تثبيتها، فإنها تحتاج إلى الدقة في العمل وفق مقاييس محددة، تعرف هجرة من قِبل أصحابها وروادها، مع بروز الدخلاء الذين يعتمدون على تجارة الربح دون الحفاظ على أصالتها، وما زاد من معاناة حرفيي النحاس غلاء المادة الأولية، التي يتم استيرادها من الخارج عن طريق بعض المستوردين، حيث زاد سعرها بأضعاف ما كانت عليه منذ عشر سنوات خلت، وهو ما جعلها تشكل أعباء مالية على الحرفيين، الذي أصبحوا يعتمدون على النحاس الخفيف، الذي يمكن أن تطرأ عليه تغيرات مع السنين، عكس النحاس الأحمر، من النوعية الأولى، الذي ''تخرج'' منه أشياء لا تزول. بورتري عمي ''أحمد''.. 57 سنة حرفة في صناعة وطرق النحاس ''المصنوعات النحاسية التقليدية فقدت قيمتها داخل المجتمع القسنطيني'' يروي عمي أحمد بوقرة، البالغ من العمر 70 سنة، قصة مصاحبته لمهنة صناعة وطرق النحاس منذ سنة 1956 لحد الساعة، برواق النحاحسية بمنطقة باردو في قسنطينة، بأعين تغرورق بالدموع كلما سألناه عن العصر الذهبي وعن اندثار الأواني القديمة، والتي لم يبق منها سوى ''قطّار ماء الورد والزهر''. تحدث عمي أحمد عن بدايات مداعبته للمطرقة والنحاس، وهو لا يزال شابا يافعا في منطقة سيدي الجليس، التي كانت تحوي حرفي النحاس، من ''اليهود'' و''العرب''، والذي كان يأتيهم الناس، خاصة النسوة، من كل صوب وحدب، لاقتناء ''الكيروانة''، ''القصعة''، ''الوضاية''، ''الكفتيرا''، ''السطل البلدي''، المصنوعة من النحاس الأحمر، والتي أصبحت، حسبه، دون قيمة وضاعت قيمتها الاجتماعية، وهو الأمر نفسه بالنسبة للمعمّرين والفرنسيين، الذين كانوا يتسوّقون في أروقة النحاس ليأخذوا أواني للديكور المنزلي. عمي أحمد تكلم عن الأسماء الأولى التي لمعت في النحاس، والذين كانوا مجرد متربصين تمكنوا بعدها من توسيع محلاتهم وتعليم صناعهم، الذين واصلوا العمل بعدهم في مرحلة السبعينيات، حيث كانت تجارتها مربحة جدا، وتتهافت عليها العرائس ومؤسسات البيوت الجديدة لتزيين أركان المنزل واستعمالها في المناسبات السعيدة والمتميزة. ثم تحولوا إلى الحي العتيق ''الرصيف'' الذي كان الشارع الرئيسي رقم واحد، الذي يعرض فيه النحاس، والذي لم يتبق فيه سوى محل واحد. وقد اتهم الصنايعي ''أحمد بوقرة'' الدخلاء على المهنة، الذين يسعون من أجل التجارة المربحة وأضاعوا أساسيات النقاش والعمل والتعامل مع مقتنيات النحاس، حيث أصبح الصانع الحقيقي محل استغلال من قِبل بعض من يطلقون على أنفسهم لقب الحرفي، حيث يستعملونهم لصناعة ورسم أجمل الأعمال، ثم يسعون إلى بيعها لمؤسسات خاصة، يجنون من خلالها أضعاف السعر وبأرباح مضاعفة. وقد أعرب عن أسفه من ضياع المهنة وتحوّل النحاسي من الفنان المبدع إلى الباحث عن الخبزة، وهو المنطق الذي فرضته الطبقة الجديدة للحرفة، بالإضافة إلى غلاء المادة الأولية من جهة أخرى. شاهد من أهلها رئيس غرفة الصناعات التقليدية نور الدين غضاب ل''الخبر'' لم نهمل أبدا شعبة النحاس وللنحاسين شأن كبير في تظاهرة عاصمة الثقافة العربية نفى نور الدين غضاب، رئيس غرفة الصناعات التقليدية في قسنطينة، أن يكون هناك إهمال من قِبل السلطات لهذه الشعبة، التي ''تعد من ركائز الصناعات التقليدية ونحضرها لعاصمة الثقافة العربية''، مشيرا إلى أن هذه الأخيرة تحتاج إلى تنظيم، لإبراز قدرات أزيد من 120 حرفي مسجل لدى الغرفة و300 آخر فوضوي. يشتكي معظم الحرفيين من غلاء المادة الأولية، وهو سبب توقف معظم ''الصنايعية'' عن ممارسة هذه الحرفة؟ لقد نظّمنا لقاء نشّطه خبراء دوليون، وبرئاسة الأمين العام للصناعات التقليدية بالوزارة الوصية، منذ شهرين، جمعنا من خلاله العشرات من المنتسبين للشعبة، وتناقشنا حول المعوقات التي تؤثّر على عملهم اليومي، والتي كانت أولاها حول المادة الأولية، حيث رفض الحرفيون مباشرة الدولة للاتفاقية التي أراد وزير السياحة السابق تفعيلها، من خلال استيراد هذه المادة من إيران التي كانت تعرف مشاكل، وتمسكوا بالمورّدين الجزائريين المعتادين على التعامل معهم والابتعاد عن المتاهات، بحجة أن المادة تقوم بشرائها الإدارة، التي لا تملك الخبرة عن طريق بنك البركة ويمكن مغالطتها في تحديد النوعية الجيدة، حيث أكدوا خلال اللقاء أن التعامل مع المورّدين المحليين يكون عن طريق الدفع بالتقسيط. هل من تنظيم جديد يؤطّر المهنة ويمنعها من الزوال؟ لقد تمكّنت قسنطينة من إدراج نحّاسيها ضمن نظام الإنتاج المحلي، وقدّمت ميزانية خاصة من أجل ترقيتها، إلى جانب تسهيلات مقدّمة من قِبل مؤسسات تدعيم الشغل في شقّ الصناعات التقليدية الفنية لمنعها من الانقراض، حيث إن الوزير بن مرادي قرر إنشاء الصندوق الوطني للدعم المباشر للمنتسبين لنظام الإنتاج المحلي، يستفيد عن طريقه الحرفيون الذين يوقّع لهم رئيس الجمعية من وسائل عمل مجانا، تصل إلى غاية 35 مليون سنتيم، يخضعون بعدها لمتابعة من قِبل مفتشي الصناعات التقليدية لمدة 3 سنوات، في انتظار إنشاء مدينة حرفية تجمعهم. كما نعلمكم أن 36 شخصا ممن تفوق أعمارهم 50 سنة قد استفادوا من محلات بالمدينة الجديدة علي منجلي، بعد تسوية البطاقة الحرفية. ألا تظن أن المنتوج الآسيوي، الشبيه بالقسنطيني، المتواجد بالسوق قد أضرّ بالإنتاج المحلي؟ نعم هناك منتوجات مصنوعة في ماليزيا والهند والصين تباع في السوق المحلية، تأتي عبر الحدود بما فيها الفخار التونسي، إلا أنها ليست أصيلة وبسعر منخفض على نظيرتها القسنطينية. بالمقابل فإننا نحمل نظرة إيجابية، لأن هذه الأخيرة لا تؤثّر على حرفيينا الذين يستوفون جميع الطلبات المقدّمة لهم، والتي تأتي غالبيتها من ولايات أخرى، ومن الخارج، ورغم إنتاجهم الضئيل، حيث نعتبرها منتوجات تكميلية. قسنطينة: حاورته وردة نوري بن نية محمد أحد مستوردي النحاس البورصة والدولار يتحكمان في السعر والإجراءات الإدارية الجمركية تعيقنا استهجن محمد بن نية، حرفي سابق في شعبة صناعة النحاس ومستورد للمادة الأولية، في حديثه مع ''الخبر''، التعقيدات الجمركية التي عادة ما يصطدمون بها أثناء إدخال المادة عبر الموانئ الجزائرية، حيث أشار إلى أن السلعة تحتجز لأسابيع، بسبب أخطاء صغيرة تعود سلبا على الحرفيين، كما أن سعر الكيلوغرام من هذه المادة يرتفع آليا بسبب التعقيدات والإجراءات ذاتها، رغم انخفاض سعر المادة الأولية، أحيانا، في السوق الأوروبية. وطالب المتحدث بتدخل السلطات من أجل تسهيل الإجراءات، التي ستضطرهم في حال بقائها على هذا المنوال للتخلي عن الاستيراد، وترك الحرفيين أمام مصير مجهول. علما أنهم يزودون كامل التراب الوطني وأقصى الصحراء، ويحققون الفائض في كثير من المرات، بإغراق السوق الجزائرية بها. وقال إن هذه المادة متواجدة على المستوى الوطني تحديدا بغار جبيلات، ولم يتم استغلال احتياطيها بعد لعدة أسباب، حيث إن الكيلوغرام من النحاس الأصفر، الذي يحتوي على قرابة 07 بالمائة من النحاس، يساوي من 5 إلى 6 أورو، أما النحاس الأصلي الأحمر فيصل إلى 8 أورو، مشيرا إلى أن سعر المادة الأولية مرتبط بالبورصة، حتى وإن نزل سعره فسيصطدم بارتفاع سعر الدولار وانخفاض قيمة الدينار الجزائري على مستوى البنوك، وهو ما يجعل سعره غير محدد وقابلا للارتفاع والانخفاض، ويقوم على معاملات استيراده أربعة موردين من إيطاليا وألمانيا وفرنسا، التي يجب أن تكون وفق معايير ومقاييس دولية يخضع لها النحاس.