لم تتخلف المرأة الجزائرية يوما عن واجبها الوطني، إلا أن مآثر نضالها بقيت مستترة لا ترى ولا تسمع، مما حرم الأجيال من إدراك مسيرتها التي ليس لها مثيل في العالم، وقصد طرد شبح النسيان عن هذا الجيل من المناضلات بادر مؤخّرا المتحف العمومي الوطني للفن الحديث والمعاصر بالتنسيق مع الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي إلى تنظيم معرض يحمل عنوان “المجاهدات بطلاتنا”، يكشف هذا التراث الثوري الذي بقي لعقود حبيس الذكريات وبقيت صوره البالية مخبأة في صندوق محكم الغلق. يبدأ المعرض من الطابق الأرضي برواق “حياة اليوم”، حيث يقدّم الصور التي التقطها شريف بن يوسف لمجاهدات هن جزء من مسيرة ثورة التحرير، مارسن كلّ أشكال النضال وخضن كلّ المعارك ووهبن شبابهن وحياتهن من أجل استقلال الجزائر، ويخيّل للزائر عند دخوله المعرض أنّ الصور لا تنتهي وبأنّ صاحبات البورتريهات العملاقة يستقبلنه وهن يتحدّثن فيما بينهن بلغة المناجاة عن ذكريات أليمة عشنها إبان سنوات. أغلب البورتريهات بالأبيض والأسود تظهر فيها المجاهدات في سن متقدّمة تغزو وجوههن التجاعيد ويظهر في عيونهن ثقل الماضي الذي لم تمض أيامه بعد، وبجنب هذه البورتريهات نصبت صور نفس المجاهدات من الأرشيف تظهرهن في مقتبل العمر، أغلبهن كن جنديات في صفوف جيش التحرير، وتظهر صور أرشيفية أخرى تلك المجاهدات عندما كن أطفالا أو شابات في أوج جمالهن، لكنّهن كنّ دوما يخترن الجزائر والشهادة على الحياة فكن بحق طفرة إنسانية غير قابلة للتكرار. من تلك المجاهدات؛ السيدة شنيتي بوضياف دليلة التي قدّمت صورة جماعية لها رفقة مجموعة من زميلاتها الممرضات مع الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وتظهر في صورة أخرى بوصافي خيرة الطاعنة في السن وأمامها بوصافي خيرة أخرى لا تتجاوز العشرين تحمل السلاح بالزي العسكري وسعيدة بذلك لأنّها كانت في مهمة نبيلة ستضمن لها المجد والشرف، وتظهر أيضا الكثيرات منهن بتروني خيرة صاحبة الجمال الفاتن، إذ عرضت لها صورة تظهر فيها كأنها نجمة من نجمات هوليوود الحسان التقطت لها في استوديو جبريل بوسط القاهرة في الخمسينات، وهو ما يعكس أنّ هؤلاء الشابات كن عاديات كبنات جنسهن عشقن الحياة لكنهن نتيجة قهر الاستعمار بعن أنفسهن للحرية، إذ لا معنى للحياة والجمال بدون وطن وبدون كرامة. تميّز بورتري السيدة مكي ليلى بالهدوء والحكمة، فهي العجوز المتأمّلة، كأنّها تكتشف الحياة من جديد رغم التجاعيد وبجانبها في الصورة المقابلة نشر مقال لها عن نضالها السياسي، مرفوقا بصورتها التي لا تشبهها من فرط الشباب والحيوية والجمال، فعياش فاطمة مختلفة النظرة تملك نظرة ثاقبة وحادة كأنّها الصقر، لم تختلف عن تلك التي تظهر بها في صورة تجمعها بزميلاتها الجنديات في جيش التحرير يحملن السلاح كأنهن يستعدن للمعركة، رغم صغر سنهن ونحافة أجسامهن المنهكة التي تركت الطبيعة القاسية في الجبال أثرا عليها. تحضر أيضا بن يلس حسينة بدموعها وهي عجوز مع صورة لها مع مجاهدي الولاية الأولى وتحضر مخيوبة أم السعد القروية من أعالي جرجرة وبلغمبور خديجة بسلاحها وسيمون غزالي ممثلة جبهة التحرير في المغرب والمجاهدة بن صافي معزوز خديجة التي تظهر في بورتري لها مغمضة العينين، كأنّها تتذكر ما مر عليها من محن كذلك الحال بالنسبة لمريم بن محمد ولويزات إيغيل أحريز التي عرضت لها صورة وهي طفلة بريئة لم تتعد العاشرة، كأنّها قطعة من الجمال، كذلك الحال وهي فتاة يافعة قبل أن تدمّرها يد ماسو. مجاهدات أخريات ظهرن بشكل ثنائي في البورتريهات، بدت عليهن السعادة والجمال تماما كما كنّ في صور جمعتهن وهن لم يتعدين سن العشرين إبان الثورة التحريرية، ظهرت أيضا المجاهدة باية الكحلة المعروفة بشجاعتها التي انحنى أمامها الرجال، كما أظهر بورتري كبير السيدة زهرة ظريف بيطاط بابتسامتها الهادئة ووقارها وحكمتها التي يخافها أعداؤها إلى اليوم وفي صورتها المقابلة تظهر في لحظة اعتقالها. الطابق الأوّل به الجناح الثاني من المعرض وهو بعنوان “من المخفي إلى المرئي، المجاهدة امرأة محاربة” للمصورة نادية مخلوف، يحوي بدوره على بورتريهات كبيرة لمجاهدات أخريات منهن لافالات إفلين السيدة العجوز وبجانبها لافالات إفلين المرأة الشابة الحسناء التي تتحدّث بحنان لابنتها الصغيرة، كذلك الحال مع سبورتيسي جيلبارت التي تظهر في صورة أرشيفية مع زوجها وليام وتظهر في بورتري آخر شركي أليس الأنيقة والهادئة رغم تقدّم سنها. مفاجأة المعرض هو ظهور بعض المجاهدات اللواتي عرفن في مرحلة صباهن بمواهبهن الفنية، منهن المجاهدة الممثلة هندة التي عرضت لها صورة وهي على خشبة المسرح تؤدي دورا تمثيليا، كذلك الشأن مع خناب بوضيوف زكية التي صوّرت مع مجموعة صوتية غنائية، وهناك كذلك مجاهدات بصور يظهرن بلباسهن العسكري وهن يستقبلن من طرف العائلات في القرى والمداشر كما حصل مع عقون حرة. صور أخرى لا تنتهي منها للمجاهدة زبيدة عميرات التي ظهرت بالزي العسكري والسلاح، والسيدة آسيا التي لفتت أنظار العالم إليها في مظاهرات 11 ديسمبر 1960 وإليات من فدرالية فرنسا وغروج جاكلين وعموش تاسعديت ولعمري مليكة وسليمي زهيرة الفتاة الجميلة والأنيقة التي تصوّر وهي تخيط العلم الوطني بتفان ليكون حاضرا يوم الاستقلال، وبوجمة خيرة التي تكتب على الآلة الراقنة المناشير، وتكاد الصور والبورتريهات لا تنتهي، على الرغم من أنها جزء يسير من تاريخ المجاهدات في الجزائر. المعرض يكشف تاريخا ظلّ لوقت قريب في الظل ويسلّط الضوء على نضال المرأة الذي مارسته في صمت، كما يعتبر وثيقة تاريخية حية تساهم في كتابة تاريخنا الوطني، علما أنّ أغلب تلك المجاهدات لم يسجلن ولم يكتبن مسارهن النضالي ولم يساومن في تضحيتهن، ليبقى تاريخهن اللواتي صنعنه غير مستغل ربما لأنّه لم يقدر حق قدره، رغم أنّه ركيزة للذاكرة وبالتالي يبقى المعرض مبادرة لإخراج نساء نوفمبر من غياهب النسيان وإعطائهن الكلمة وإعادتهن إلى مشهد العلن. المعرض هو أيضا وقفة تأمل للجزائر المكافحة التي رمت بالمرأة في صلب الحراك الثوري ولو لا هذه المرأة المتمرّدة والمتحدية لما تحقّق النصر مهما كانت بسالة الرجال، ويفضح المعرض ممارسات الاستعمار في حق هذا الكائن الجميل والرقيق من خلال السجن والتعذيب والاغتصاب الجرح الذي لا يندمل. إنّ كل ابتسامة أو تأمّل أو لحظة شجن معروضة هي صفحة من تاريخنا الوطني، بالتالي فإنّ تلك الصور هي ملك للشعب الجزائري كله، إنّ المرأة الجزائرية -كما جاء في ديباجة المعرض التوضيحية – صقلها النضال في 8 ماي 1945 لتقرّر خوض غمار العمل المسلّح، ولم تتوقّف أيادي النساء على تحضير “الكسكسي” و«الكسرة” والقهوة لتعبئ أكياس المجاهدين ولم تتوقّف أيضا عن حمل السلاح والقنابل. كانت المرأة ملتزمة بالجهاد سواء كانت ابنة الريف أو المدينة، متعلّمة أو أمية، مسبّلة أو فدائية، متزوّجة أو عزباء، عصرية أو محافظة، طالبة أو ممرضة أو إطارا ساميا سواء كانت بالزي العسكري أو بالحايك أو باللباس العصري، استطاعت أن تقلق مضاجع جنرالات فرنسا وتريهم الكوابيس في وضح النهار متحملة الأهوال والآلام ولم تنس رغم ذلك أن تزغرد على من يسبقها للشهادة. من ضمن ما قاله الأعداء عن المرأة المجاهدة مقولة الجنرال الفرنسي السامي باكيت قائد المشاة رقم 13 في مظاهرات 11 ديسمبر 1960؛ “إنّ المساعدة التي تقدّمها النساء للمتمردين تشكّل دون أدنى شك عقبة تعرقل كفاحنا ضدّ تنظيم التمرد”، و«كان وضع النساء في الخزانة” على حد تعبير المرحومة المجاهدة زهور زيراري، أمرا مؤلما لكل منهن، في هذه الأجواء تعود ذكرى زهرة رقي المناضلة والشهيدة المنسية التي أعدمت في قالمة بعد مجازر 8 ماي 1945. للإشارة، تمّ عرض لوحات ضخمة كتبت عليها نصوص بعضها للمؤرخة الدكتورة مليكة القورصو المساهمة في تحضير هذا المعرض، كما عرضت رسالة حسيبة بن بوعلي مكبّرة مرفوقة بصورتها إضافة إلى عرض فيلم وثائقي شاركت فيه المجاهدات صاحبات صور المعرض يدلين بشهاداتهن لعادل فول وبن يوسف الشريف ويغنين الأغاني الوطنية منها أغنية عن حادثة تحويل طائرة زعماء الثورة من المغرب وبه أيضا قراءات لنصوص الشاعر نزار قباني عن الثورة الجزائرية وإهداء خاص للمجاهدة مخيوبة أم السعد المشاركة في الفيلم، والتي توفيت قبل أن تراه. للتذكير، فإنّ المصورة نادية مخلوف من مواليد فرنسا، درست بعد مواصلة دراساتها العليا في الصورة الوثائقية، لتقرّر عام 2011 التفرّغ لمشروع خاص بالمرأة الجزائرية، وقدّمت الجزء الأوّل منه في بورتريهات عن نساء منطقة القبائل بعنوان “الله غالب”، وتلقى عدة جوائز دولية، والجزء الثاني من المشروع خصّص للمجاهدات ب 15 بورتريها، اختير من طرف معهد البحث ودراسة المغرب والمشرق المتوسط في باريس وغيرها، وعند دخوله الجزائر هذه السنة أضيف له 15 صورة أخرى . وتستمر فعاليات المعرض إلى غاية نهاية شهر جويلية القادم .