تُجمع الْمُعجماتُ العربيةُ على أن التنوير مصدر للفعل الْمُضعف ( نَوَّرَ ) ويدل على الإضاءة والإنارة وقت إسفار الصبح ، يقال : قد نَوَّرَ الصبح تنويراً ، ويقال : صلّى الفجر فِي التنوير ، والفعل أنار واستنار أي : أضاء والنور : الضياء , يقال : استنار الشعب صار واعيا ومثقفا.. والنَّور : نور الشجر ، يقال نوّرت الشجرة وأنارت أي أخرجت نَورها . وتنوير الشجرة : إزهارها . فالتنوير يعنِي أحد أمرين هما : النور الساطع الذي يهدي الضالين وينيرلَهم سبلهم بعد ظلامها ، وكذلك النَّور الأبيض الْجَميل الذي ينبِيء عن اكتمال نضج الشجرة وسريان الْحَياة فِي أوصالِها حتى غدت تزهر النَّوار ومن ثم تأتينا بثمارها الشهية . من هذا نرى أن الْمَفهوم اللغوي للتنوير يؤكد على جَانبين وهما الَْجانب الْمَحسوس و الَْجانب الْمَعنوي من الْحَياة ، فالتنوير بهذا الْمَفهوم لا يَخرج عن معنى الإضاءة والإشراق والسطوع ، وهذه الْمَعاني شديدة الصلة بالتنوير فِي الْمَعنى الاصطلاحي لأنها تشكل مظاهر للعقل الواعي الوثاب . والتنوير أو ألانوار بوصفه مصطلحا فلسفياً وفكرياً , يعتد بالعقل البشري ويستمد قوته ونوره منه ، ويعتمد عليه ويُجدد الفكر السياسي والدينِي والتعليمي ويؤكد النزوع إلَى الفردية ويقرر أن وعي الإنسان والاستقلال بالرأي هو العامل الْحَاسم والشرط الأساس فِي إزدهار الْمُجتمع وتقدمه , ويتميز بالتفاؤل والإيْمان بالعقل ويقوم على فكرة التقدم الإنساني والتحرر من السلطة والتقاليد ، وإنّ هجرة الإنسان من اللارشد ( أو القصور العقلي ) ، واللارشد هو عجز الإنسان عن الإفادة من عقله من غير معونة الاخرين ووصايتهم ، والفرد يكون مسؤولاً عن هذا القصور لأن سببه لا يكمن فِي نقص وعيب فِي العقل ، بل فِي الافتقار إلَى القرار فِي استعماله دون إشراف الاخرين ، تَجرأ على استعمال عقلك: ذاك هو شعار الأنوار ، ولا حياة للتنوير من غير الْحُرية فهي التِي تضمن له الشيوع والانتشار ومن الثابت أن تتمثل فلسفةُ التنوير جوهريا بتيار فكري جديد ومتمرد , تَملّكته كليا نزعة عقلية ونقدية كونية إنسانية , وتؤكد على أنّ الفكر يَجب أن يكون حرا مهما كانت النتائج ، فالتنوير انبعاث للروح النقدية التحررية التِي ناهضت التفكير الغيبِِي التشاؤمي والأسطوري وتَخليصه من الأوهام والْخُرافات فهو وعلى مر الزمن وبالْمَعنى العريض تعبير عن فكرة التقدم ، وهدفه تَحرير الإنسان من الْخَوف وجعله سيدا . أما الأرض التِي تنورت كليا فهي أرض تشع بشكل يوحي بالانتصار كان برنامج التنوير برنامَجا يهدف لفك السحر عن العالَم . لقد اراد التحرر من الأساطِيْر وأنه يَحمل للمخيلة سند العلم . . يبدو من استقراء الْمَفهومين اللغوي والاصطلاحي ان بينهما صلة وثقى جعلت الْمُصطلح شديد القرب من اللغة ، فكما أن الإنارة تبدد الظلمة وتزيل الغشاوة وتأمن من العثار والزلل فإن الإيْمان بطاقة العقل وتفعيلها يُخرجانِ الناس من وهدة التخلف والانْحطاط الَى عوالِم جديدة تكفر بالعجز والْجُمود وتشع بالوعي والْحَيوية وتبشر بالازدهار والتقدم ، والتنوير خروج من الْحَقيقة إلَى الْمَجاز فِي الإصطلاح . ومن هذا الْمَفهوم سينطلق البحث وإليه يهدف . التنوير فِي الفكر الأوروبي : يرى الْمُؤرخون الغربيون أن القارة الأوروبية قد عاشت قرونا طويلة حالة الفوضى والظلام والعبودية والاستبداد والإقطاعية والتخلف الفكري والانْحطاط العلمي فِي فترة سُميت بالقرون الوسطى أوالعصور الوسطى التِي تشكل الْحِقبة الوسيطة التِي تفصل بين الْحَضارة اليونانية والعصور الْحَديثة . وهي تبدأ منذ سقوط الْحَضارة الرومانية فِي الغرب عام 376م إلَى سقوط الْحَضارة البيزنطية فِي الشرق على يد الأتراك عام 1453م . بِمعنى انها استمرت ألف سنة تقريباً . . لقد عانت أوربا كانت فِي القرون الوسطى من هيمنة الإقطاع والكنيسة وما نتج عن ذلك من تَخلف وجُمود وركود فِي الأحوال وقمع الأفكار . وكانت مَحاكم التفتيش تُمارس شتى أنواع الْجَور على العلماء والْمُتنورين بِحجة مُحاربة الْهَرطقة فِي الديانة الْمَسيحية . ويلخص الْمُفكر الفرنسي جاك لوغوف ( 1924 – 2014 ) أهم السمات والْخَصائص التِي تُميز إنسان أو عقلية العصور الوسطى بِما يأتي : 1 – هيمنة العقيدة اللاهوتية الْمَسيحية على العقول ، إن العقل والفكر والفلسفة مطيع ومذعن وخادم لعلم اللاهوت الكنيسي . 2 – إن الإنسان متشائم ، ضعيف ، خائف فِي كل لَحظة من ارتكاب الذنوب والْخَطايا ، فالْخَطيئة كانت تلاحق الإنسان الْمَسيحي الأوروبي ولايعرف كيف يستطيع أن يتخلص منها . 3 – هيمنة العقلية الرمزية أو الْخَيالية على وعي الناس ، إذ إن الإنسان فِي العصور الوسطى كان سريعَ التصديق لِما يسمع ولِما يروى له ، وكلما كانت الْحِكايات بعيدة عن الواقع ومبالغا فيها كانت أقوى تأثيرا فِي الناس وأحظى بإعجابهم . مرت الْمُجتمعات الأوروبية فِي القرن السادس عشر ( عصر النهضة ) بصراعات وصعوبات ومشكلات سياسية واجتماعية ومذهبية واقتصادية عديدة لَم تكن ولادة النهضة الأوروبية عملية سهلة ، ولَم تنضج مفاهيمها وتكتمل معالِمها دفعة واحدة ، كما لَم تقطع صلتها بالنظام القديم إلا بعد عدة قرون من الْمُعاناة شهدت تراكما ماديا وفكريا هائلا ، وتَحولات ثورية فِي الاقتصاد والتجارة والزراعة وتطور الْمُدن ، فضلا عن الفلسفة والفكر والثقافة والسياسة . . ومهدت النهضة الطريق أمام التحرر الفكري والتطور العلمي فِي أوروبا وحدثت حوادث عظيمة وتبدلات عميقة فِي الْمَجالات الفكرية والدينية والاخلاقية والسياسية والاقتصادية ، وقد احتلت النهضة مكانة بارزة جداً فِي تاريخ أوروبا ، بل فِي كل التاريخ الْحَضاري الإنساني لِما قدمت من جديد فِي مَجالات الإبداع الفكري والفنِي ولِما أحدثت من تغيير فِي نظرة الإنسان للحياة وفِي تقييماته لِمظاهرها فقد غدت النهضة ذات مضمون شامل فِي مسيرة التطور البشري وتَمخضت عن إحياء القديم وتطوير ما كان قائما وتدشين بدايات رائعة فِي حقول شتى من الْمَعرفة الإنسانية . اختلفت الاراء حول أصل التنوير الأوروبي ، فمنهم من يرى أنه يرجع إلَى اليونانيين القدامى ، ولاسيما أرسطو الذي أدخل الْمَنهج العلمي فِي دراسة الطبيعة ، وهو الذي قال إن الْمَاء هو الْمَادة التِي يتكون منها العالَم ، وهو العنصر الباقي والدائم فِي كل الأشياء ، ومنهم من يرده إلَى تشريعات صولون (549 ق . م ) التي تدعو إلَى الغاء نظام الرق وإصدار قانون الْمُساواة ، فبهذه التشريعات وضع صولون الْحَجر الأساس للديْمُقراطية اليونانية إذ طالب بالقضاء على نظام الْحُكم الارستقراطي وأعطى الطبقة الشعبية حق الْمُشاركة فِي نظام الْحُكم وتسيير شؤون الدولة( ) ، فِي حين يذهب آخرون إلَى أن جذور التنوير تعود إلَى فرنسيس بيكون ( 1561 – 1626 م ) الذي رفض تدخل الدين فِي شؤون الْمَعرفة ، لأنه يَحد من كل ألوانها ، أو إلَى عقلانية رينيه ديكارت ( 1596 – 1650 ) حينما أطلق مقولته الشهيرة الْمَعروفة بالكوجيتو ( أنا أفكر إذن أنا موجود ) أي لكي أفكر لابد وأن أكون موجوداً( ) وإلَى كتابات توماس هوبز ( 1588 – 1679 ) بِماديتها الصارمة وإلَى اسبينوزا ( 1632 – 1677 ) وإلَى جون لوك ( 1632 – 1704 ) ، وإلَى رؤية اسحق نيوتن ( 1642 – 1726 ) الآلية للكون ، وإلَى أفكار لايبنتش ( 1646 – 1716 ) . وقد قُسمت أجيال التنوير على ثلاثة اجيال : يضم الْجِيل الأول من الْمُستنيرين فِي فرنسا روسو ( 1712 – 1778 ) وفولتير ( 1694 – 1778 ) ومونتسكيو ( 1689 – 1755 ) أما الْجِيل الثاني فيضم ديدرو ( 1733 – 1784 ) الذي نشر أول جزء من موسوعته عام 1751 ودالبمير ( 1714 – 1780 ) والْجِيل الثالث للتنوير يرتبط بالْحِقبة الْحَديثة ويضم لسنج وتوماس جيفرسون ( 1742 – 1826 ) الذي كان شغوفا بِمتابعة الْمَعرفة ، وإخضاع كل ما تعلمه للتحليل العقلي ، ويعتقد ( رولان مورتييه ) أنّ القرن الثامن عشر هو العصر الذي يشعر بأنه مكلف بأن يؤدي رسالة بشرية مهمة هي التنوير ، وهو القرن الذي بلور لنفسه برنامج عمل واضح الْمَعالِم من فلسفة الفلاسفة وأفكارالْمُفكرين . السمات الرئيسة لفلسفة الأنوار : يُمكن تلخيص أهم الْمَلامح والسمات الفلسفية والفكرية والاجتماعية التي أظهرها عصر الأنوار فِي أوروبا بِما يأتي : 1 – النزعة العقلانية : إنّ مصطلح العقلانية فِي الفكر والثقافة الأوروبية يطلق على ذلك الاتْجاه الفكري الذي يقابل النزعة الدينية أوالاعتقادية . وقد وُصف هذا الاتْجاه بكونه نقدا شديدا للوثوقية اللاهوتية أو النزعة التسامُحية حيث يعني الْمُصطلح … استخدام الْمَنطق فِي نقد الْمُسلمات الدينية وينطلق هذا النقد من قناعة تامة بأن بإمكان العقل أو الفكر أيا كان موضوعه ، أن يثبت أو ينفي من خلال الفكر نفسه من دون الاستعانة بأي مدد خارجي ، إن الفكر التنويري فكر عقلاني يؤكد الْمَرجعية الإنسانية ومركزية العقل الإنساني ويعطي صورة مشرفة للعقل ، ومصدر الْمَعرفة الوحيد فِي الفكر التنويري هو العقل . يؤكد مفكروعصر التنوير على أن العقل هو سبيل الإنسان إلَى النفاذ إلَى الْحقيقة أي إلَى العلاقات والروابط أو القوانين التِي تَحكم الأشياء ، فالعلاقات أو القوانين ضرورية لتنظيم فهمنا للطبيعة وتنظيم أفعالنا وفقا لِهذا الفهم ، فالتنوير الذي مَجد العقل وآمن به إيْمانا لا حد له ، كان هدفه تَحرير الإنسان من التعصب والْخوف ومن السلطة الْمُطلقة وتَجريد العالَم من سحره القديم لصالِح الْمَعرفة العلمية التجريبية إن فلسفة التنوير ترى أن الفرد هو جوهر العالَم ومركزه وصانع مصيره فيه ، ودون أن تكون لديه حاجة إلَى قوى أخرى ترشده أو تسيّره ، أو تقرر مصيره وتَجعله تابعا منفعلا ، يعوزه التفكير والعقل والعقلانية فِي كل مَجال ، فالإنسان فِي عصر التنوير يتحدد أول ما يتحدد بالعقل ، اذ دعا الفلاسفة إلَى الاحتكام والعودة إلَى العقل فِي الْمَجالات كافة ضد سلطة العادة والتقليد . 2 – النزعة النقدية : ساد لدى فلاسفة التنوير الاعتقاد بأن كل الناس يُمكنهم ان يعرفوا كل شيء وليس هناك فئة او نُخبة هي وحدها فقط قادرة على إعمال العقل فِي حين أن سواد الناس يقنع بالْخُرافات وكان ديكارت قد افتتح كتابه الْمَقال عن الْمَنهج بعبارة : الْحِس السليم أعدل الأشياء قسمة بين الناس ، وهو ما يعني أن لكل شخص نفس الإمكانية الْمُتاحة لغيره فِي الوصول إلَى الْحَقيقة . . 3 – فكرة التقدّم : تقوم فلسفة الاستنارة على مفهوم فكرة التقدم الذي ينبثق من الإيْمان بقدرة العقل البشري على التطور والتغيير والتقدّم نَحو الأفضل والأحسن للسيطرة على الطبيعة وتسخيرها لِمنفعة البشرية وقدرة الفرد على مواجهة التحديات التِي تواجه الإنسان بفضل قدراته الشخصية وقابلياته الفكرية والذهنية والْحَدسية ، ن انتشار العقل وذيوع التنوير سيؤدي بالضرورة إلَى التقدم أي إلَى التحول التدرِيْجي من الأقل إلَى الأفضل سواء فِي ميدان مُحدد او فِي مَجموع الأشياء ، إن التقدم فِي القرن الثامن عشر لَم يكن مُجرد فكرة عابرة ، وانّما كان اعتقادا راسخا يبشر بِحياة أرضية تزول فيها كل أنواع الشرور والفساد ، ويرسخ فيها الْخيْر والفضيلة . 4 – الإنسانية : إن الإنسان هو الْمَركز والأساس فِي الفكر التنويري ومن غير الْمُمكن نسيانه أوتَجاهله أوالتقليل من شأنه ، إنه ذاك الإنسان الذي شق طريقه بنفسه وبقدراته الذاتية من أجل اكتشاف الْحَقيقة وآمن بقوة الإنسان وحدها ، وقد عدّ الفيلسوف الانْجليزي ( ديفيد هيوم ) الإنسان حقيقة الكون الْمَركزية ، وركيزة كل علم ومعرفة ، فالتقدم الْمَادي والصناعي الذي أوجده التنوير هدفه سعادة الإنسان . 5 – مبدأ الديمقراطية : ربط فلاسفة التنوير ، ولا سيما جان جاك روسو تَحقيق الْحُرية والْمُساواة بسيادة الشعب والديْمقراطية الْحَقيقية القائمة على عقد اجتماعي مؤسس على إرادة الْمُواطنين أحرار متساوين وصالِحيْنَ ، ليست إرادة أكثرية مطلقة بل جَماعية . 6 -العدل والْمُساواة : إن فكرة الْمُساواة من الأفكار الأساسية التِي دعت إليها حركة التنوير ورأت أن الناس متساوون جَميعا أمام القانون فِي الْحقوق والواجبات لا فرق بينهم من حيث النوع والْجِنس واللون والدين والْمَذهب أو الطبقة الاجتماعية . يرى جان جاك روسو أن اللامساواة أو التفاوت الْهَائل بيْن الأغنياء والفقراء فِي الْمُجتمع هو سبب كل الاضطرابات ، والانْحرافات ، والْجَرائم والشرور ، ولو أن الْمُجتمع – أي مُجتمع – امّن ووفر لكل مواطن حاجاته الأساسية من الطعام والشراب والسكن والْمَلبس والْحَياة الإنسانية الكريْمة لاختفت الْجَرائم والْمَشاكل من ساحته أو لتقوّضت إلَى حد كبير . ونادت فلسفة التنوير بِمُساواة الْمَرأة بالرجل ونظرت إليهما نظرة واحدة لا فرق بينهما فِي الْحُقوق والواجبات . 7- الطبيعة : من بين الأفكار التِي اهتم بها عصر التنوير فكرة الطبيعة التِي هي مكملة لفكرة العقل ، فقد تأثر فلاسفة الأنوار بالفلسفة الانْجليزية ، خاصة فلسفة اسحق نيوتن ( 1643 – 1727 ) الطبيعية التي وجدوا فيها الانْمُوذج الأمثل للدراسة العلمية الْمُنظمة , فقد أدرك نيوتن أن التفسير الصحيح يُمكن أن يتم على وفق منهج صحيح يفترض إلغاء كل صلة بِما هو خارق ، وهو يرتكز على الدراسة القائمة على الْمُلاحظة والتجربة واستخلاص القضايا من الظواهر وجعلها عامة عن طريق الاستقراء . وقد أدى تطبيق هذا الْمَنهج إلَى اكتشاف القوانين العامة للطبيعة ، فازال بذلك الغموض وأثبت بالبرهان القاطع أن لا شيء فِي الطبيعة يستعصي على التفسير العلمي . 8 – الْحُرية : إن الْحُرية فِي عصر الأنوار اصبحت قاعدة أساسية تبنى عليها السلطة السياسية والتنظيمات الْمَدنية كواجبات للدولة ، لقد تكونت الليبرالية وتبلورت كإيديولوجية للتعبير عن فاعلية الطبقة البرجوازية فِي مُجتمعات أوروبا الغربية الْخَارجة من إقطاعية العصور الوسطى ، فالْحُرية هي الْحَق الطبيعي والْمَدني الأساس والْحَيوي لكل فرد ، وهي الفعل الأصيل والاسْمَى للمجتمع السياسي الْمُتحضر ، وتعد حرية الفكر والضمير والاعتقاد من أعظم الْحُريات مكانة لدى فلاسفة الاستنارة ومفكريها ، إن كان لكل عصر روحه التي تُميزه ، فالْحُرية هي روح عصر التنوير . 9 -الشك : فِي منتصف القرن السابع عشر ظهرت الفلسفة الديكارتية الْمَبنية على الشك والْمَنهج العقلاني ، وقد عدت بداية الْحَداثة الفلسفية وأحدثت انقلابا معرفياكبيراً ، حينما بَحث ديكارت عن الْحَقيقة واليقين ، فبدأ بالعقل وقدرته فِي الوصول إلَى الْحَقيقة اليقينية واعتقد أن الْحَدس العقلي ( النور الطبيعي للعقل ) عندما يعرى من الشوائب التي تشوبه سيدرك الْحَقيقة بذاتها إذ يرى ديكارت أن البحث فِي الْمَنهج هو أهم الْمُشكلات واولاها بالعناية فِي مهمة الفيلسوف ، وأراد أن يَجعل بداية إصلاحه الفكري الظفر بطريقة للحصول على الْمَعرفة الْحَقيقية بواسطة ذلك النور الفطري الْمَبثوث فينا جَميعا وهو نور العقل ، وفيما يَخص مذهبه فِي الشك يؤكد ديكارت على رفض جِميع الْمذاهب القائمة وأن يغض الطرف عن الْمَاضي وأن يشك فِي كل ما تعلمه من قبل ، وأن يَمضي فِي هذا إلَى أبعد حدوده مصمماً على أن يبدأ النظر كله من جديد ، لعله يَجد أصولا أخرى يقينية تصلح أساسا لكل معرفة مُمكنة . ، وأنه شَكّ فِي كل ما لَم يتمتع بِمزية اليقين الْمُطلقة . فالشك عنده خطوة التأمل الفلسفي الأولَى وخطوته الأساسية فان أدى بنا إلَى الْمَبادىء الأولَى كان السبيل إلَى اليقين الفلسفي . 10- التسامح : إن التسامح يعني قبول الآخر وإحترام حريته وطرق تفكيره وسلوكه وآرائه السياسية والدينية ، وتعود هذه الفكرة إلَى عصر التنوير بعد تطور النزعة الإنسانية التي انبثقت من احترام العقل فِي مواجهة اللاهوت وكذلك إلَى الإصلاح الديني وإلَى الْمَعارك والْحُروب الدينية والْمَذهبية التي نشبت بين الكاثوليك والبروتستانت ، ويأتي فولتير على رأس الفلاسفة والْمُفكرين فِي هذا الباب ، حيث يؤكد إشاعة روح التسامح بين الأديان والطوائف والأقوام ، ولذلك يعد فيلسوف التسامح بِحق ، لأنه ارتفع بالتسامح إذ قال : لسنا فِي حاجة إلَى فن كبير وإلَى فصاحة فائقة لكي نثبت أن على الْمَسيحيين أن يكونوا متسامِحين بعضهم مع بعض ، بل أذهب إلَى أبعد من ذلك لأقول لكم يَجب أن تنظروا إلَى كل الناس باعتبارهم إخوانا لكم . كيف يكون التركي أخا لي؟ ، والصيني واليهودي والسيامي إخوانا لي؟ نعم بدون شك ، ألا تنحدرون جَميعكم من الأب نفسه ، وأنكم جَميعا مَخلوقات الله ؟! ، وفِي سنة 1689 نشر الْمُفكر الانْجليزي جون لوك رسالته فِي التسامح الْمُسماة ( رسالة فِي التسامح ) أكد فيها أن الإيْمان لا يفرض بالقوة ، إنه ليس من حق أحد أن يقتحم ، باسم الدين ، الْحُقوق الْمَدنية والأمور الدينية . . 11- الفصل بين الدولة والدين : تَمحورت أفكار فلاسفة التنوير حول ضرورة الفصل بين صلاحيات الدولة ومهامها والْمُعتقدات الدينية ، إذ إن السلطة التشريعية عند هؤلاء الفلاسفة سلطة مقدسة بوصفها اسْمى وأرفع تعبير عن حرية الرأي والتعبير . يقول جون لوك ومن أجل ألّا يسعى آخرون ، بدعوى الدين ، إلَى أن يَجدوا فِي الدين خلاصا لِما يرتكبونه من إباحية وانْحلال ، ومن أجل ألّا يفرض أحد على نفسه أو على غيره أيّ شيء تَحت دعاوى الولاء والطاعة للأمير ، أو الإخلاص والوفاء فِي عبادة الله ، أقول إنه من أجل هذا كله ، ينبغي التمييز بدقّة ووضوح بين مهام الْحُكم الْمَدني وبين الدين ، وتأسيس الْحُدود الفاصلة والعادلة بينهما ، كان الفلاسفة في عصر التنوير لا يُحاربون الدين بل كانت معركتهم مع الْخُرافات والتعصّب ومع الكنيسة بوصفها مؤسّسة سلطوية وقمعية داعمة للحكّام الْمُستبدين . ويَجب ألَّا نغفل وجود التنوير فِي الشرق الأقصى فقد تعدّدت مصادره الشرقية ، فالتنوير الصيني بدأ مع ظهور حركة الإصلاح الديني فِي القرن السادس عشر من خلال القراءة العقلانية والتحديثية للفلسفة الكونفوشيوسية وركّز على الفصل بين الدين والدولة وأقامت الدولة القومية الْمَركزية بنظامها البيروقراطي العقلاني وبلورت قيم الفاعلية الإنسانية الْحُرة . أمّا عند اليابانيين فحقبة التنوير تبدأ فِي النصف الثاني من القرن التاسع عشر وذلك من خلال إصلاحات سياسية ومشاركات شعبية ولأجل ذلك تأسّست مَجالس حكم مَحلية وأنظمة اقتصادية مزدهرة وكذلك الانفتاح على العلوم والْمَعارف . ——————– المصادر : 1- كتاب العين – الخليل بن احمد الفراهيدي . 2- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية – الجوهري . 3- معجم مقاييس اللغة -ابن فارس . 5- مدخل الى التنوير الاوروبي – هاشم صالح . 6- قول في التسامح – فولتير ترجمة سعيد بنكراد . 7- التنوير في الانسان شهادة جان جاك روسو – عقيل يوسف عيدان . 8- فلسفة التنوير – إرنست كاسيرر – ترجمة ابراهيم ابو هشهش . 9- عصر الأنوار والحضارة الاوروبية – بيير شونو – ترجمة سلمان حرفوش . 10-جدل التنوير – د. هيثم منّاع . 11-التنوير – دوريندا أوترام ترجمة د. ماجد موريس ابراهيم . 12-مواقف من اجل التنوير – محمد الحداد .