الدكتور/ الشريف طاو طاو التنوير التغريبي والتنوير الإسلامي أرسل إلي الأستاذ المحترم عدة فلاحي، مشكورا، بضعة أسئلة تتعلق بإشكالية التراث والحداثة، طالبا مني الجواب عنها ضمن مسعى فكري يقوم به، محاولة منه لإيجاد مساحة فكرية مشتركة بين التراثيين والحداثيين، يمكن أن نؤسس عليها أرضية تفاهم وحوار وتعايش فكري، على اعتبار أن هذه المشكلة تعد من أكبر المشكلات الفكرية في فكرنا العربي والإسلامي المعاصر، إذ يتمسك التراثيون برؤيتهم التراثية وينتصرون لها، ويتمسك الحداثيون برؤيتهم الحداثية المناهضة للرؤية السابقة، فيرون في الحداثة الرهان الأوحد لنهضتنا وتقدمنا.. ولأن مسعى الأستاذ عدة فلاحي هو المسعى نفسه الذي نشتغل عليه ونعمل على تحقيقه، فهاأنذا ألبي طلبه عبر هذه المقالة المتواضعة التي آمل أن يجد فيها إجابة لبعض تلك الأسئلة الحارقة التي أرسل بها. أولا: الإشكالية والمقاربة بدلا من أن يكون الجواب من خلال موضوع التراث والحداثة، كما تفضل بطرحه الأستاذ عدة فلاحي، فقد اخترت مقاربة الإشكالية من خلال موضوع التنوير، وغرضي من ذلك أن أدخل على الحداثيين من الباب نفسه الذي دخلوا منه، أقصد أنني بدل أن أكتب عن التراث الذي يتحسس منه معظم الحداثيين، فيصمون كل من يتمسك بالتراث أو يدعو إلى العودة إليه، تمثلا أو إحياء وتجديدا، يصمونه بالأصولي وبالرجعي وبالتقليدي وبالمناهض للحداثة، وكأن الحداثة عندهم لا تتأسس ولن تقوم لها قائمة إلا على أنقاض التراث ونقده، وهذه النظرة في الحقيقة تتعارض مع واقع الحداثة ومسارها في الفكر الغربي ذاته، أي في أرضها وبيئتها الأصلية، إذ تأسست هذه الحداثة بالعودة إلى التراث الفكري الغربي ما قبل القروسطوي (القرون الوسطى)، تحديدا التراث الإغريقو – روماني، ممثلا في الفلسفة الهللينية والفلسفة الهللينستية. قلت، إنني آثرت محاورة هؤلاء التنويريين العرب انطلاقا من مقولة التنوير، حتى تكون أرضية الحوار بيننا مشتركة ومتقاربة، طالما أن الهدف هو التقريب وليس الجدال والسجال الذي غالبا ما ينتهي بالخصومة واتساع الهوة أكثر فأكثر، وذلك تأسيا بمنهج علمائنا الأوائل في الجدل والمناظرة، فقد كانوا يقارعون الحجة بالحجة، ويستخدمون سلاح الخصم نفسه في محاورته ومناظرته، بعيدا عن أساليب القدح والتجريح. وهكذا، فإذا كان التنويريون يتمسكون بمقولة ودعوى التنوير، ويزايدون بها على التراثيين فينعتونهم بالظلاميين، وبأعداء الحداثة، وما إلى ذلك من أوصاف، فإننا نرى أن ذلك لا يكفي ليجعل منهم حداثيين، ولا ليجعل من التراثيين غير حداثيين، ذلك أن التنوير، أي الجرأة على استعمال وتوظيف العقل ليست حكرا على التنويريين وحدهم، بل هو قاسم مشترك بين التراثيين والحداثيين على السواء، بحيث لا يوجد اتجاه تراثي واحد، بما في ذلك التيار السلفي أو التيار العرفاني، ينكر العقل أو يعادي استعماله، وكيف يفعل ذلك وفي القرآن (وهو مرجعية التراثيين) دعوة صريحة إلى التعقل والتفكر والتدبر والنظر العقلي؟..وكل ما هنالك أنه يوجد اختلاف في مفهوم العقل وحدوده وكيفية استعماله، وهذا ما يجعلنا نميز بين صنفين من التنوير في الفكر العربي والإسلامي المعاصر: تنوير إسلامي، وتنوير تغريبي. وانطلاقا من هذا التمييز، نقول بأن العلاقة بين التراثيين والحداثيين هي مسألة معقدة، فهي تبدو من جهة علاقة تقارب، باعتبار أن مقولة التنوير تشكل قاسما مشتركا بينهما، ولكنها من جهة أخرى، تبدو علاقة اختلاف وتنافر، باعتبار المحمول في كلا الموضوعين، حيث نجد أحدهما يوصف بالتنوير الإسلامي، والآخر يوصف بالتنوير التغريبي، وهو ما يجعل الهوة والمسافة بينهما متباعدة تباعد الهوة بين الإسلام والغرب. لذلك، فإننا سنحاول مقاربة هذه العلاقة في ضوء هذه العلاقة المعقدة، أي أننا سنأخذ بعين الاعتبار جوانب التقارب من جهة، وجوانب الاختلاف والتباعد من جهة أخرى، من أجل التأسيس لأرضية تفاهم وتعايش يمكن أن نؤسس عليها مشروعا فكريا نهضويا يراعي الاختلاف في إطار الوحدة، أقصد وحدة الهدف وهو الحداثة والنهضة.
ثانيا: في مفهوم التنوير بعيدا عن التعريفات اللغوية والمعاني الاصطلاحية (ذلك أن المقالة صحفية أكثر منها أكاديمية)، سأكتفي بمقاربة مفهوم التنوير انطلاقا من تعريف واحد، هو ذلك التعريف الذي ذكره الفيلسوف إيمانويل كانط، جوابا على سؤال، ما التنوير؟، الذي جعله عنوانا لإحدى مقالاته، حيث قال: "التنوير هو أن تتجرأ على استعمال عقلك"، فالتنوير بهذا المعنى ليس أكثر من الشجاعة على استخدام العقل وتوظيفه، فيكون العقل بهذا المعنى هو مرجعية الإنسان في المعرفة في مقابل أي مرجعية أخر، مثل مرجعية الدين (النص) أو مرجعية التقليد، فالتنوير بهذا المعنى، هو أن تفكر بنفسك، ولا تترك الآخرين يفكرون نيابة عنك.. إن هذا المعنى للتنوير، يحيلنا إلى السياق التاريخي الذي ظهر فيه، فقد ظهرت حركة التنوير في أوروبا خلال القرن الثامن عشر، وذلك كرد فعل على الفكر القروسطوي، باعتباره فكرا دينيا مثلته الكنيسة المسيحية الكاثوليكية التي احتكرت فهم النص الديني، ولم تترك المجال أمام الأفراد لإعمال عقولهم بكل حرية، الأمر الذي أدى إلى قمع أولئك العلماء والمفكرين والفلاسفة الذين تجرؤوا على التفكير والبحث العلمي وانتهوا إلى آراء تتعارض مع معتقدات الكنيسة، وهكذا تعطلت وظيفة العقل في التفكير والسؤال والنقد. وعلى ضوء هذه الممارسات، فقد تعرضت الكنيسة للنقد، وهو ما أدى إلى ظهور حركة الإصلاح الديني التي رفضت فكرة الوساطة الكنسية (البابوية) بين الله والفرد، ورفضت احتكار الكنيسة لفهم النص الديني، فبإمكان الفرد أن يستخدم عقله في فهم النص دونما حاجة إلى الكنيسة، ورفضت فكرة التراتبية التي أقامتها الكنيسة، فالمؤمنون سواسية أمام الله، وبذلك فتحت هذه الحركة المجال أمام مرجعية العقل وأعادت للعقل قيمته في الفهم والتفكير إلى جانب مرجعية النص، ومن هنا يمكن أن ننظر إلى هذه الحركة على أنها حركة تنويرية رائدة شكلت إرهاصا لحركة التنوير الفلسفي، مع اختلاف بسيط وهو أن التنوير لدى رجال الإصلاح الديني كان تنويرا دينيا، بحيث استخدم العقل في إطار الدين وحدوده، ولم يتجرأ على نقد الدين أو تحييده، بينما التنوير الفلسفي ذهبت به الجرأة إلى تحييد الدين وتهميشه في إطار ما اصطلح عليه بالعلمنة والعقلنة، بحيث جعل الدين شأنا خاصا بين الإنسان وربه، واتخذ من العقل مرجعية له، فالعقل قادر على تحرير الإنسان من الخرافات والأوهام والأساطير وقيادته إلى التقدم والحداثة، إلا أنه، ومع ذلك، لم تبلغ بهذا العقل الأنواري الجرأة على نقد الدين أو إنكاره، حيث نجد أغلب التنويريين، في صورة كانط وهيجل مثلا، يحترمون الدين ولا يسيئون إليه أو إلى أتباعه، فيما خلا بعض الاستثناءات من الفلاسفة الماديين والملاحدة، على غرار فيورباخ وديدرو وكابانيس وفولتير، الذين كانوا مع ذلك متسامحين رغم إلحادهم، وهو ما نلمسه في رسالتي جون لوك وفولتير "في التسامح"، فإذا كان هذا شأن التنوير الغربي، فماذا عن التنوير العربي (التغريبي)؟
ثالثا: التنوير التغريبي بداية أشير إلى أن التراثيين عندما يتحدثون عن التنوير العربي ،غالبا ما يستخدمون في توصيفه مصطلح "التنوير التغريبي"، وهو مصطلح لا يرضي، من دون شك، هؤلاء التنويريين، وذلك بالنظر إلى ما ينطوي عليه هذا المصطلح من حمولة إيديولوجية مشوبة بالنقد والاستهجان، إذ يحيل إلى المرجعية الغربية له، وبالتالي، فهو يشير إلى آفة من آفات هذا الفكر التنويري، وهي آفة التقليد والتبعية للغرب، وهذا مما يتنافى مع مفهوم التنوير ذاته، الذي ظهر ضدا للتقليد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هذه المرجعية الغربية تجعل منه فكرا أو تنويرا دخيلا على البيئة العربية، وهذا ما يؤشر على فشله بنسبة كبيرة، إذ ستلفظه الثقافة العربية باعتبارها ثقافة تراثية محافظة في الغالب. ولا شك أن دعاة التنوير لا يرضوا بهذه الاتهامات والانتقادات، فهم يدافعون عن أنفسهم، من منطلق أن التنوير عبارة عن مجموعة قيم إنسانية كونية، وأن ارتباطه تاريخيا بالغرب ليس دليلا على خصوصيته ومحليته، وحتى لو سلمنا بخصوصيته، فإن هذا لا ينفي، كما يقولون، وجود جانب كوني قابل للتعميم والتطبيق في مجتمعات أخرى خارج السياق الأوروبي، ومنها مجتمعاتنا العربية والإسلامية. ومن هنا يحاول دعاة هذا الفكر التنويري العربي أن يجدوا جذورا وأصولا لهذا التنوير في تراثنا العربي الإسلامي، فيجدون ضالتهم في تراث المعتزلة وابن رشد والتوحيدي ومسكويه وغيرهم ممن تحققت فيهم قيم التنوير كالعقلانية والنزعة الإنسانية والحرية الفردية. ولكن، هل تكفي حجج التنويريين هذه في دفع شبهة التغريب عنهم؟، وهل أن استخدام هذا المصطلح (التنوير التغريبي) يأتي حقا من خلفية إيديولوجية؟. في الواقع، إن المبرر الذي جعلنا نستخدم هذا المصطلح بهذه الصيغة، ليس مبررا إيديولوجيا بالضرورة، بمعنى أننا لا نستخدمه بقصد الانتقاد أو الاستهجان، وإنما على سبيل الوصف والتقرير، ولذلك سنحاول التزام النقد الابستمولوجي لا الإيديولوجي قدر الإمكان، ومن هنا نقول، إنه لا مراء في أن التنويريين العرب يأخذون التنوير الغربي ويتبنون منطلقاته ومقولاته مثل العقل والنزعة الإنسانية والحرية والفردانية ثم يسقطونها على واقعنا كما هي، بدعوى كونية هذه القيم، دون التمييز بين روح التنوير وشكله (ظاهره)، ودون مراعاة السياق التاريخي والاجتماعي لظهور حركة التنوير في الغرب (أوروبا). وعلى خلاف ذلك، نجد التنويريين الأمريكيين والآسيويين أكثر وعيا بهذا البعد التاريخي والاجتماعي للتنوير، بحيث أخذوا من التنوير الأوروبي روحه ولم يتبنوا شكله، وهكذا ظهر ما يسمى بالتنوير الأمريكي والتنوير الآسيوي، أي أن التنوير الأوروبي خضع لعملية تبيئة وتقريب من المجال التداولي للمجتمعات الأمريكية والآسيوية، وهو ما لم يتم على الصعيد العربي، حيث أن أغلب تيارات الفكر العربي التنويري تمثل رجع صدى للفكر الفلسفي الغربي، مثل الوضعية والشخصانية والوجودية والفينومينولوجيا والتفكيكية والهرمنيوطيقا والبنيوية…إلخ. وذلك تحت تأثير الحداثة الغربية ومنجزاتها، بما هي أثر من آثار حركة التنوير ونتاج لها.